أثر غسّان مفاضلة
تسأل نفسَك (أو روحَك ربما، على ما تطلب أغنيةٌ لأم كلثوم؟) عن الأثر الذي تركتْه فيك جولة عينيْك في معرض النحّات والرسّام والناقد التشكيلي، غسّان مفاضلة، في المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة في عمّان، سيّما وأن عنوانَه "أثر على أثر"، فتلقاك في إعجابٍ بالذي أنشأه الفنّان من أعمال، لا أعرفُ لها اسماً، وأنا صاحبُ ذائقةٍ ومزاجٍ محبٍّ للفنون وحسب، فأستعيرُ مما كتبه زملاءُ عارفون بمشاغل الفنون وتنويعاتِها اسمَها أعمالاً إنشائيّة واختزاليّة. أمّا مصدر الإعجاب، فأن الصديق العتيق أتعَبَ نفسَه كثيراً في جمْع موادّ أعطاها أنفاسَاً منه، وأطيافاً من مخيّلته، ثم في صياغته تشكيلاتٍ ذات إيحاءاتٍ ودلالات، وقبل ذلك، ذات وقْع بصريٍّ خاص، يأخذ عيني من يتملّاها، وينظُر في تفاصيلها، ويتحسّسها بأصابعه عندما تُغويه المشهديّات قدّامه بهذا، رغبةً في معرفة المصنوع ممّا صار مصنوعاً، يأخُذهما إلى أسئلةٍ تتوالدُ من أسئلةٍ تكاد لا تنتهي، عن المجهود المُضني (لا بدّ) الذي أنفقه المجرِّب العتيد (والصديق العتيق) في بنائه أعمالَه هاته، بأدوات نجّارين وحدّادين وخزّافين وبنّاءين و...، وفي "طبْخ" مشهدٍ تتآلف تكويناتُه، وعناصرُه، بكيفيّةٍ يُراد منها أن تضيء أفكاراً، وجمالاً، ومعرفةً، وأحاسيس ومشاعر ... وأسئلةً وحيرةً أيضاً.
أثر الإعجاب هذا فيك، بعد جولة عينيْك في أكثر من 25 عملاً، تعقبُه قناعةٌ فيك بقدرة الفنان الرهيف، الممتلئ ثقةً بقدراته وملَكاته، على إنجاز جمالٍ، وإشاعة دهشةٍ، من المتروك، من المُهمل، من الحديد والخشب والألمنيوم والتراب والزّنك والفولاذ والإسمنت والزجاج والبلاستيك (وإكلريليك) وغيرها. يحترِف غسّان، بأناةٍ وصبرٍ ظاهريْن، وبدأبٍ ومواظبةٍ يشهد بهما زوّارُه وأصدقاؤه ومعارفه، الفنَّ باعتباره شغلاً ذهنيّاً وبدنيّاً ونفسيّاً، لكي يُنجز مقترحه الجمالي مما يجمع من خاماتٍ (وزنبركاتٍ!) وخيوطٍ وصدفياتٍ ورملياتٍ و...، وما لا أعرف، لكي يصوغ فكرةً أو مرسلةً تجوسُ في حشاياه. وشاغلُه أن يقع، في هذه المواد، على ما يراها من روح، من طبيعةٍ تضجّ بحياةٍ أو جوهر، فلا يُبقيها في سكوتِها وسكونِها، خصوصاً أن تلويناتٍ على سطوح الأعمال، ذات المساحات المتنوّعة، الملساء أو الخشنة أو البيْن بيْن، يتيح لها تأويلاتٍ وقراءاتٍ، قد تلتقي وتتقاطع، وقد تختلف وتتغاير، بحسب منظوراتٍ حرّةٍ ومنفتحةٍ إلى هذا الشغل البصري، غير المألوف، والصعب، وربما العويص أيضاً. إلى هذا، تنجح "إنشائيات" الفنّان والناقد الأردني في استثارة فضول من يشاهدها، بشأن الجوهريِّ البعيد في كل واحدةٍ منها، في المعرض الذي أعدّ له صاحبُه منذ سنوات، واختتم أيامَه أول من أمس الأربعاء (افتتحه العين مصطفى حمارنة).
الفعل الإبداعي الذي يُنتجه غسّان مفاضلة في غير عملٍ في "أثر على أثر" تركيبيٌّ في واحدٍ من مستوياته، تتوازى فيه العفوية الملحوظة مع انضباطٍ ظاهرٍ في الشغل، على شيءٍ من الهندسيّة أحياناً، ليتّصف بإيقاعه الذاتي الذي ينبضُ به العمل نفسُه، من داخله وجوّانياته وطبقاته، ورمليّاته وزجاجيّاته ونثاراته. ثمة نزوعٌ إلى التجريب يستشعره الناظر في هذه الإنشائيات، لكن غسّان لا يذهب فيه بعيداً، فلا يُغويه الاستغراق في بناءاتٍ مستغلقة، فالبادي أن الفراغات بين التشكيلات المبنيّة من الحديد أو الألمنيوم المتطاول والرقيق تغويه، وكذلك الثقوب، وكأنها توحي باحتفالٍ ما بالفضاءات والنوافذ. وفي هذا كله، وفي المشغولات الإنشائية الأخرى، تذهب بك التصاميم والتكنيكات (باستخدام الأسلاك مثلاً)، ذات المحمولات التعبيرية، إلى البعيد في ذاكرتك، أنت المدينيُّ، البعيدُ عن تفاصيل وفيرة في البيئة، الفقيرة المتقشّفة ربما. تذهب بك إلى العاديّ مما هو حواليْك، ويصيرُ هنا، بمصنوعيات غسّان مفاضلة ومُدركاته الجمالية ورؤاه الفنية، أداة لمشهديّاتٍ تتأمّلها وتستقبل ما تتيحه بصرياً وتجريديّاً من ممكنات التأويل، وإنْ تعطيك أسماء الأعمال مفاتيح لهذا، من قبيل تسمية عمليْن، واحدٍ من حديدٍ وخشب، وآخر من فولاذٍ وزنكٍ وخشب "نهر الأردن 1" و"نهر الأردن 2"، وتسمية عمل آخر من الخشب الأملس "العنقاء".
ليس في أرشيف غسّان مفاضلة (1964) معارض كثيرة، وإنْ يعرف المهتمون طبيعة أعماله ومشغولاته، كما تُعرَف مساهماته النقدية في متابعة منجزات تشكيلية وبصرية عديدة في الصحافات الثقافية العربية، ومنها الأردنية. وفي معرضه "أثر على أثر" يعرّف، مجدّداً، بشخصه مثابراً جادّاً في مساره الفني... الحميم والجميل بداهة.