بلال الحسن الذي لا يُنسى
لمّا تستعرض سيرة بلال الحسن، الذي تُوفّي أمس في باريس عن 85 عاماً، تلتقط فيها حسْماً أجراه لصالح الصحافي المهني وصاحب الرأي في شخصه، عندما استشعرَ أن ثمّة تنازعاً بين تطلّعه إلى أن يكون في هذه الصفة وصفته فاعلاً سياسياَ مشتغلاً في العمل السياسي الفلسطيني، التنظيمي منه خصوصاً، بعد أن وجَد، في أواخر عشرينيّاته ومطالع ثلاثينيّاته، أن مغادرته الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وكان عضواً في مكتبها السياسي مدّة قصيرة، بعد أن اختارها في الانشقاق عن الجبهة الشعبية (1969)، وكذا تركُه عضوية اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير، فعلاً ضرورياً يتّسق مع عودته إلى مزاولة الصحافة التي يُريد، الصحافة التي في وُسعه أن يضيف ويُجدّد ويُبدع فيها، وهو الذي كان قد زاولها في منبرٍ حزبيٍّ، مجلة الحرية التي كانت تُصدرها في بيروت حركة القوميين العرب، قبل أن ينتقل إلى صحيفة المحرّر. وقد برز اسمُه، في تلك الأثناء، واحداً من الكفاءات الشابّة الواعدة في صحافة الستينيات العربية، البيروتيّة خصوصاً، مع رفاقه وأصدقائه الذين لمعوا لاحقاً، ومنهم طلال سلمان وغسّان كنفاني. وجاء لافتاً أنه صار نائب رئيس تحرير "السفير" البيروتية، في بواكيرها وعند صدورها (1974)، وهو اللاجئ الثلاثيني الفلسطيني (مواليد حيفا)، وقد أدّت هذه الصحيفة دوْراً لا يُنسى، حتى توقّفها (ديسمبر/ كانون الأول 2016)، وزاوجت بين إيقاعها الصحافي الرفيع وأنفاسها العروبيّة.
لا ينتسب صاحب هذه الكلمات إلى الجيل الذي عايش المراحل الأولى من مهنيّة بلال الحسن الإعلامية، غير أنه لا ينسى التجربة الأكثر تميّزاً في الصحافة العربية المهاجرة، مجلة اليوم السابع، والتي صدرت في باريس في أكتوبر/ تشرين الأول 1983 وتوقفت في مطالع 1991. ولا تزيّد في القول إن جيلنا مدينٌ لهذه المجلة التي ترأس تحريرَها الفقيد الكبير، لما توفّر فيها من حرفيةٍ عالية، وحس نقديٍّ ملحوظ، ومتابعاتٍ وإضاءات متنوّعة في السياسة والثقافة والفنون، اتّصفت برقي اللغة وأناقة العرض، فضلاً عن جماليات إخراجها وخطوطها (بأداء زميلنا إميل منعم ولمساته). ولئن يتذكّر المتابع من بين عدّة أسبوعياتٍ صدرت في باريس ولندن تميّز أولى أعداد "الوطن العربي"، في نهايات السبعينيات وبعض الثمانينيات، قبل أن تتراجع إلى مستوىً مؤسفٍ وبالغ الرثاثة، فإنه ليس منسيّاً أن "اليوم السابع"، بالذي كنّا نقرأه فيها لبلال الحسن ورفيقه مدير التحرير جوزف سماحة، ولأسماء لبنانية وفلسطينية ومغاربية (توفّي أخيراً منهم الناقد السينمائي التونسي خميس خيّاطي)، حافظت، حتى قرار ياسر عرفات وقفها (وهو الذي وفّر تمويلها) في لحظةٍ عربيةٍ حسّاسة (بعد غزو الكويت وقبل حرب تحريرها)، على سويّتها وأناقتها.
لم يغادر بلال الحسن السياسة (أظنّه بقي عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني)، فقد زاولها من موقعه كاتباً ومعلقاً وصاحب رأي في صحفٍ ودورياتٍ تعدّدت مساهماته فيها بعد تجربة "اليوم السابع"، الاستثنائية، فقرأنا له ما قرأنا في انتقاد الحال الفلسطيني، سيّما بعد اتفاق أوسلو الذي عارضه. وفي كتبٍ ثلاثة أصدرها (2003، 2005، 2008) ضمّت كثيراً مما كتب، بدا الراحل وفيّاً لخياراته الوطنيّة والمبدئيّة، في الموضوعة الفلسطينية، وصاحب أفق ديمقراطي مناهض للتسويات الناقصة. وواظب، في الأثناء، على مرونتِه وسمْته المنفتح اللذين شحنَه بهما مِراسُه الصحافي الطويل، وهو الذي كان على صلاتٍ طيّبةٍ مع حكوماتٍ عربية، ومع قياداتٍ فلسطينيةٍ وازنة، من دون أن يأخذه أمرُه هذا إلى مباركة العوج عندما يلحظه، ومن دون أن يتخندقَ في معارضاتٍ جذرية، فقد آثر صفتَه ناقداً، لا مُخاصما، من دون تنازلٍ منه عن ثوابت معلومة. وبهذا، يمنحنا أستاذُنا عظةً مهمّة، أنك، في أدائك الصحافة، تستطيع أن تستثمر المساحات المتاحة أمامك، من دون أن تتخفّف من مواقفك واجتهاداتِك. وفي ظنّي أن ولاءاتِ المنابر التي كتب فيها بلال الحسن، قبل مرضه الذي أقعده طويلا، ربما قيّدت كتاباته، ولم تُمكّنه بما يكفي لقول ما يريد قولَه في غير شأن عربي.
رحم الله بلال الحسن، كان علماً رفيع المكانة في مسار صحافةٍ عربيةٍ عريضة، لن يُنسى اسمُه معلّماً وقلماً، وصاحب تجربةٍ في قيادة منابر كان لها حضورها وفاعليّتها.