مصر تسدّد فواتير اختيارات حكومتها لا أزمات العالم
للأزمة الاقتصادية في مصر وتداعياتها الاجتماعية المروّعة أسبابها الداخلية العميقة، والقائمة بالفعل منذ سنوات. مصر ليست مثل دول أخرى تدفع ثمنا اقتصاديا للأزمات العالمية بصورة عرضية مؤقتة، فمظاهر الأزمة الاقتصادية قائمة في البلاد، ويعاد تدويرها من حين إلى آخر وتتعاظم في ظل تحذيراتٍ متكرّرة داخليا وخارجياً منذ سنوات من حتمية الوصول إلى النتيجة الكارثية الراهنة، في ظل الاختيارات السياسية والاقتصادية للسلطة الحاكمة، وللرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بشكل خاص. ما أحدثته جائحة كوفيد والحرب الروسية الأوكرانية هو تعرية بناء اقتصادي هشّ، والكشف عن اختلالاته السياسية والإدارية البنيوية. يواجه المواطن المصري اليوم حالةً من الخوف والضبابية من المستقبل، في ظل تراجع قيمة الجنيه المصري إلى مستويات هي الأدنى في تاريخ هذه العملة، وارتفاع أسعار السلع الأساسية ومعدّلات التضخّم بشكل متسارع، وانكماش القطاع الخاص، والاستثمارات الأجنبية، وتضخم غير مسبوق لحجم الدين العام وخدماته. لا يوفر الاقتصاد المصري فرص حياةٍ كريمةٍ للأغلبية العظمى من المصريين، وليس غريباً أن يتزامن هذا الوضع البائس مع تزايد معدّلات الهجرة غير النظامية القادمة من مصر، والتي أعلنت عنها السلطات الأوروبية والإيطالية في الشهور الأخيرة. أصبحت مصر طاردةً للمصريين، في ظل البطش الأمني المفتقد للمنطق، وبفعل الفقر وانعدام الفرص في الحياة الكريمة.
أمام السلطة في مصر طريقتان للتعامل مع الأزمة الاقتصادية الحالية وتداعياتها الاجتماعية الكارثية: الأولى، وهي التي اعتاد عليها النظام الحاكم في مصر، البحث عن مصادر تمويل ومساعدات آنية بشتى الطرق، والتدخّل عبر مختلف آليات السياسات النقدية لتثبيت الأوضاع ووقف تدهورها. وقد كان هذا هو سلوك الدولة منذ السنوات الأولى لهذه السلطة، حيث نجحت في تأمين مبالغ مالية ضخمة من الشركاء الخليجيين الداعمين لعبد الفتاح السيسي، والتي مكّنت الدولة من تخفيف الأزمة وتأجيلها إلى سنوات لاحقة. وبداية من عام 2016، بدأت الدولة في تلقي قروض صندوق النقد الدولي، وانتهاج سياسة الاقتراض الخارجي بشكل واسع. وقد أصبح هناك شبه اتفاق بين الخبراء الاقتصاديين غلى أن الدولة لم تستغلّ الموارد التي حصلت عليها بموجب هذه القروض بالشكل المناسب للاستجابة لأولويات تطوير الاقتصاد المصري. وتحوّلت هذه المساعدات الخارجية، وآليات التمويل المختلفة لمسكّنات أجلت الأزمة، وعظمت من مظاهرها لكن لم تتعامل مع جذورها.
طمح السيسي في بناء نموذج تنموي لا يتطلب ديمقراطية أو حرّيات مدنية وسياسية، أو تداولا على الحكم
تتطلب الطريقة الثانية، بالطبع، حلولا قصيرة الأجل وسريعة لسدّ العجز المالي، ووقف تدهور قيمة الجنية المصري، وتثبيت معدّلات التضخم، لكن هذه الحلول لا تكفي على المدى الطويل ما لم تصاحبها إصلاحات مالية واقتصادية هيكلية. لهذا المسار تكلفته السياسية، والتي لا يبدو من سلوك نخبة الحكم أنها مستعدّة لتحمّلها. اعتاد الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ جاء إلى السلطة توظيف اقتصاد البلد ومقدّراته لخدمة استمراره في الحكم في المقام الأول. اتّجه الرئيس منفرداً في الإنفاق على مشاريع قومية ضخمة، ابتلعت قدراً كبيراً من ميزانية الدولة، ورتبت ديوناً طائلة ساهمت في استفحال الأزمة الحالية، من دون التخطيط الجيد لما قد تجلبه من عوائد. لذلك اشترط صندوق النقد الدولي لحصول مصر على القرض الأخير ضرورة تقليص الإنفاق على المشروعات الكبرى غير الضرورية. استخدم الرئيس هذه المشاريع في التعبئة السياسية والإعلامية، وبناء شرعية تنموية وهمية لدى الرأي العام. وقد أتاحت هذه المشاريع فرصة توسيع استثمارات الجيش والشركات المرتبطة بالأجهزة السيادية بشكل رأى فيه النظام ضرورة لبناء قاعدته السياسية وشبكات دعم يستند إليها في الحكم في ظل غياب قاعدة سياسية مدنية متماسكة. هذا النموذج يواجه الآن تحدّيا من صندوق النقد الدولي الذي اشترط أيضاً لحصول مصر على القرض تحجيم التوسع الهائل في النشاط الاقتصادي للمؤسّسة العسكرية، والذي أصبح، من وجهة نظر الصندوق، خصماً للقطاع الخاص في مناخ غير تنافسي يفتقد للشفافية، ولا يشجّع على نمو القطاع الخاص. كما طالب الصندوق السلطات المصرية بتطبيق قواعد السوق والمحاسبة على الشركات الاقتصادية المملوكة للجيش. وهذه هي المرّة الأولى الذي يضع فيها الصندوق هذا الشرط بشكل صريح لحصول مصر على القرض، بعد أن كان قد حذّر في تقريره الصادر في يوليو/ تموز 2021 من المخاطر الاقتصادية المترتبة على توسع النشاط الاقتصادي للجيش.
وتشمل الإصلاحات الهيكلية الأخرى الضرورية التي يحتاجها الاقتصاد المصري تحسين البيئة الإدارية والتشريعية للاستثمار، بحيث ينتقل الاقتصاد من حالة "ترويع المستثمرين" على حد قول أحد الإعلاميين القريبين من نخبة الحكم في مصر لاقتصادٍ يجذب الاستثمارين، الأجنبي والمحلي. وتكفي الإشارة إلى مكان مصر في قاع تصنيف دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تقرير التنافسية العالمي الصادر عام 2020 بحيث تسبق إيران واليمن. يعاني الاقتصاد المصري منذ فترة طويلة من انكماش في القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي المباشر. وفي الآونة الأخيرة، تزايد القلق لدى قطاع من المستثمرين المصريين من انعدام الأمن والاستقرار الذي يوفّره السوق المصري، وقد لجأ بعضُهم لتأسيس شركات أجنبية في الخارج من أجل حماية استثماراتهم في مصر، وضمان تحويل أرباحهم إلى الخارج من دون أخطار. ويعدّ غياب العدالة وحكم القانون من أكثر التهديدات التي يمكن أن تضرّ بمناخ الاستثمار وجذب المستثمرين، وقد تكرّرت في السنوات الأخيرة فبركة السلطات المصرية قضايا واتهامات ضد رجال أعمال واعتقالهم فترات طويلة وتجميد أصولهم لأغراض سياسية.
استمرار الأوضاع الاقتصادية والسياسية من دون تغيير جذري لا يعني سوى مزيد من تشوّه النسيج المجتمعي المصري والموت البطيء للدولة
طمح الرئيس عبد الفتاح السيسي في بناء نموذج تنموي لا يتطلّب ديمقراطية أو حرّيات مدنية وسياسية، أو تداولا على الحكم، على شاكلة بعض التجارب التي عرفها العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، مثل كوريا الجنوبية وتشيلي والصين. يخبرنا التاريخ أن تحقيق معدّلات مرتفعة من النمو الاقتصادي قد لا يشترط الديمقراطية، لكنه، بالضرورة، يشترط قدراً لا بأس به من حكم القانون، والشفافية، والتنافسية، ووجود مناخٍ جاذبٍ للاستثمارات، والكفاءة الإدارية، وكلها مقوماتٌ تفتقر إليها مصر، بل شهدت مزيدا من التدهور في عهد النظام الحالي. ولم تعرف أيضا هذه التجارب تغوّلاً لجيوشها في الاقتصاد، بحيث تصبح منافسة للقطاعات الخاصة، وللمنافسة الحرّة. كما لا يمكن تصوّر نجاح أي علاجٍ للوضع الاقتصادي الكارثي الحالي في دولةٍ مثل مصر، يصل تعداد سكانها إلى أكثر من مائة مليون نسمة، معظمهم من الشباب، من دون تحقيق قدرٍ نوعيٍّ من الانفتاح السياسي لبناء الثقة مع مجتمع تأزم عبر السنوات العشر الماضية في ظل جمهورية الخوف التي لا تعرف سوى الانتقام وتكميم الأفواه. لقد أصبح هذا الانفتاح ضروريا ليس فقط للتنفيس المجتمعي، في ظل الضغوط الاقتصادية الراهنة، ولكن لسماع وجهات نظر مختلفة بشأن إدارة الاقتصاد وبناد قاعدة سياسية وشعبية عريضة داعمة لخطوات التعامل مع الأزمة.
قد تنجح السلطة المصرية بفعل بعض المسكنات الخارجية، والحلول النقدية والمالية قصيرة الأجل، والتدابير الأمنية والقمع في تحجيم آثار الكارثة الاقتصادية، واستمرار الوضع القائم واستيعاب الغضب الشعبي، في ضوء قناعة شركاء مصر الإقليميين والدوليين بأن السقوط الاقتصادي لدولةٍ بحجم مصر، وعدم استقرارها الاجتماعي والسياسي سيكون بمثابة يوم القيامة في منطقة الشرق الأوسط، لكن استمرار الأوضاع الاقتصادية والسياسية كما هي من دون تغيير جذري لا يعني سوى مزيد من تشوّه النسيج المجتمعي المصري والموت البطيء للدولة المصرية.