مصائر أبطال الروايات .. كما ينبغي لهم!
أفكّر دائماً بمصائر الأبطال في الروايات التي أنتهي من قراءتها. أفكّر الى أين يذهبون، بعد أن ننتهي من قراءة الصفحة الأخيرة، ونغلق الكتاب، ثم نضعه على الرفّ نسياً منسياً. كيف يواصلون الحياة التي أرادها لهم صنّاعهم مستمرّةً، حتى وهم يسلمونهم لنهايات مفتوحة أو مغلقة، ويبدأون بصناعة غيرهم بين دفّتي كتاب جديد؟ كيف لنا أن نساعد هؤلاء الأبطال، الذين لا أدري من الذي أطلق عليهم صفة البطولة في مبارياتٍ منتهيةٍ حتماً على الورق؟ ومن سيعيدهم مجرّد شخصيات افتراضية تنتظر أقدارها الباقية انتظاراً بين رفوف المكتبات، وعلى طاولات معارض الكتب؟
تخيلت مرّة، وأنا أنتهي من قراءة رواية جميلة تعايشت مع أبطالها بضعة أيام، أنهم سيتسرّبون خلسة من بين الصفحات، ويذهبون بحثاً عن حيواتٍ أخرى خارج الكلمات والصفحات، أو ربما يموتون انتحاراً بين السطور، أو اختناقاً بما سيتراكم على الرفوف من غبار الأيام والسنوات. لكنّهم حتماً لن يستطيعوا الاستمرار في العيش في سكون المكتبة هكذا دائماً. لن أتخيّلهم يتحدون في طبع السكون، وهم الذين ملأوا خيالي حماسة، واشتعلت حيواتهم في الأحداث والوقائع في مئات من الصفحات.
على عكس قراءاتي الشعرية المتكرّرة، لا أكاد أعيد قراءة النص الروائي إلّا نادراً ولأسباب تتعلق بالدراسة أو البحث والكتابة النقدية، أو استذكاراً لمعلومةٍ ما. أما المتعة في قراءة الرواية فتذهب دائماً مع الدهشة الأولى. ولا أستعيدها إلّا في ذاكرة القراءة. أما في الشعر، فدهشتي تتناسل بعضها من بعض عند كلّ قراءة جديدة. وهكذا، لا أكاد أملّ من إعادة قراءة القصائد الجميلة مرّات ومرّات. وفي كلّ مرّة، أشعر كأنّني أقرأ تلك القصيدة للمرّة الأولى في حياتي. وأحاول أن أتلقاها وفقاً لهذا التخيل.
ولعلّ قدرتي على حفظ القصائد، وهي قدرةٌ محدودة منذ البداية، تلاشت على مرّ السنوات عمداً، لأنّني أستمتع باكتشاف الجديد دائماً في القراءات المتكرّرة والمستعادة للقصيدة نفسها في كلّ معايشة جديدة. وربما لا أبالغ أبداً إن شعرت بجماليات التدوين الشعري نفسه على الورق، أو حتى على الشاشة. ولذلك لم أفكّر في مصائر الشعراء، ولا في شخصياتهم المفضلة في قصائدهم، لأنّني أعتبرها خالدةً في الحياة الدنيا، ليس انحيازاً مني لقبيلة الشعراء وحسب، وهو انحياز مفهوم ومعلن بالنسبة لي، لكن أيضاً لأنّ طبيعة الشعر في خواصّها السرّية، ودهشتها غير القابلة للتفسير تفرض ذلك على من يكتب الشعر، وعلى من يتلقاه بحبّ أيضاً.
أما الرواية فمختلفة جدا. إنّها حياة واحدة، أعيشها وأنتهي منها، فأمضي إلى عيش حياة جديدة ولا أكاد أتذكّرها. أما ما يبقى منها فقلق غريب على شخصيات عشت معها أياماً، ولا أعرف إلى أين ستمضي بعد أن نفترق. في ذلك الشعور الغريب الذي يتملكّني تجاه أبطال الروايات وشخصياتها خارج حدود الصفحات قليل من أسرار فن الرواية، وبعض من إجاباتٍ على أسئلتها الكبرى، مثل سؤالها الوجودي وعلاقتها بالحياة، وعما إذا كانت نقلاً أم خلقاً، أو تخيلاً أم إبداعاً، أو نسخاً أم كتابة. لكنّ الغريب فعلاً أن قلقي على مصائر أبطال الروايات لم يدفعني مرّة إلى سؤال من أعرف من الروائيين عن الأمر، وكأنني لا أريد أن أتلقى إجابة جاهزة مما يجيدون صناعته، أو ربما انتصاراً لأنانيتي التي تدفعني إلى تخيل تلك المصائر، كما أريد لها أن تكون في النهاية. وربما أيضاً لأنّني لا أريد تلك النهاية أن تتحقق، كأن يبقى أولئك الأبطال في غياهب الحياة .. يكملونها غامضين في الطريق إلى الدهشة غير المنتظرة، كما يليق بأبطال حقيقيين وحسب!