مسؤولية أوروبية عن دماء اللاجئين على حدود مليلية
في واقعةٍ مروّعة، جرت على الحدود بين مدينة مليلية، الخاضعة للسيادة الإسبانية، والمغرب في 24 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، لقي 27 شخصاً من المهاجرين وطالبي اللجوء مصرعهم، وجرح مئات آخرون في أثناء محاولة نحو ألفي شخص تخطّي السياج الشبكي المحيط بمدينة مليلية للفرار إلى أوروبا. وتشير التحقيقات التي أجرتها منظمات حقوق الإنسان المغربية والدولية إلى مسؤولية قوات الأمن المغربية والإسبانية عن حدوث الوفيات، نتيجة استخدام العنف المفرط ضد هؤلاء الأشخاص، خصوصا وأن الضغوط الأمنية، وسوء المعاملة والعنف ضد المهاجرين واللاجئين، ليست جديدة في المناطق الحدودية بين إسبانيا والمغرب. تأتي هذه الحادثة المأساوية نتاجا طبيعيا للسياسات غير الإنسانية التي يتّبعها الاتحاد الأوروبي، وكثير من دوله مع دول جنوب المتوسط منذ أكثر من عقدين، لمنع تسلل اللاجئين والهجرة غير النظامية من دول جنوب المتوسط وشرقه. وقد عزّزت الدول الأوروبية من هذا التوجّه في العلاقة مع الدول العربية لمنع تسلل الأفراد إلى أوروبا من المنبع خارج الحدود الأوروبية، وذلك بالتزامن مع تصاعد موجات اللجوء الناتجة عن استمرار الحروب الأهلية والنزاعات المحلية العربية في سورية واليمن وليبيا والسودان والعراق، فضلاً عن تزايد موجات فرار الأفراد من دول أخرى تشهد تدهوراً أمنياً واجتماعياً أو تصاعداً في السلطوية.
وقد أصبح تعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبي مرهوناً بقبول تعميق مثل هذا التعاون في إدارة حركة البشر عبر الحدود، ويفتح مجالاً رحباً أمام دول جنوب المتوسط في تلقي مساعدات مالية، وتقنيات أمنية وعسكرية. ومن مرتكزات السياسة المتوسطية للاتحاد الأوروبي، منذ انطلاق عملية الشراكة الأوروبية المتوسطية وسياسة الجوار الأوروبية هي التوصل لما يعرف باتفاقات إعادة القبول مع دول جنوب المتوسط، والتي تضع التزامات قانونية على الدول الشريكة للاتحاد في إعادة استقبال المهاجرين غير النظاميين أو طالبي اللجوء الذين ترفض الدول الأوروبية بقاءهم على أراضيها. وتعد تركيا الدولة المتوسطية الوحيدة التي وقّعت على هذه الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي في أكتوبر/ تشرين الأول 2014. أصبح الاتحاد الأوروبي ينظر إلى دول جنوب المتوسط باعتبارها تقوم بدور حراسة البوابات الأوروبية، بصرف النظر عن التكلفة الإنسانية المصاحبة لهذا الدور. كما أصبح التعاون الحكومي في المنطقة الأوروبية المتوسطية في مواجهة تدفق الأفراد بمثابة العصا السحرية التي تستخدمها دول جنوب المتوسط لابتزاز الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية، لغضّ البصر عن انتهاكات حقوق الإنسان وجرائمها التي ترتكب في هذه البلدان، وتحقيق مكتسبات في قضايا استراتيجية وسياسية محورية عديدة لهذه البلدان. فمثلا، استطاع المغرب على مدار السنوات السابقة استخدام هذا الملف للحصول على دعم (أو تحييد) الموقف الأوروبي من قضية تقرير المصير في إقليم الصحراء. وكان المغرب وإسبانيا قد وقّعا اتفاقية تعاون في مكافحة الجريمة المنظمة في إبريل/ نيسان الماضي، من بنودها التعاون الوثيق في مكافحة الهجرة غير النظامية.
في عام 2022 نجحت "فرونتكس" في تعقب وإعادة 8270 شخصا إلى معسكرات الاعتقال في ليبيا
لقد ظلّ التوجه الأبرز الذي حكم سياسات الاتحاد الأوروبي في التعامل مع هذا الملف مع دول جنوب المتوسط هو التعاون الأمني واللوجستي والمالي، لمنع وصول المهاجرين وطالبي اللجوء إلى الحدود الأوروبية من المنبع وخارج الاتحاد الأوروبي، عبر توفير التجهيزات والدعم لقوات الأمن في دول الجوار لحراسة الحدود برّياً وبحرياً. الهدف هو منع تسلل الأفراد بصرف النظر عن سمعة الأجهزة الأمنية وسجلها في هذه الدول في تطبيق القانون، واستخدام العنف والقوة المفرطة ضد مواطنيها والأجانب. في هذا السياق، سيتلقى حرس السواحل في مصر مبلغ 80 مليون يورو لتدعيم حراسة سواحل الاتحاد الأوروبي، ومنع قوارب الهجرة غير النظامية التي تحمل مصريين أو جنسيات أخرى تسعى إلى الفرار إلى أوروبا. وقد توصلت مصر وإيطاليا إلى ترتيب ثنائي خاص لم تنشر تفاصيله يسمح للسلطات الإيطالية بإعادة المهاجرين واللاجئين إلى مصر، نظير حوافز عسكرية وأمنية.
وقد لعبت الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس)، والتي تأسست عام 2005، دوراً بارزاً خلال السنوات السابقة في قيادة مهمات البحث في البحر المتوسط وتسهيلها بالتعاون مع حرس الحدود وحرس السواحل في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، تعقباً لمحاولات تسلّل الأفراد إلى السواحل الأوروبية. ففي عام 2022 نجحت "فرونتكس" في تعقب وإعادة 8270 شخصا إلى معسكرات الاعتقال في ليبيا. وقد تورّطت الوكالة، وهي تتلقى دعماً مالياً سخياً من ميزانية الاتحاد الأوروبي، تورّطت بشكل متكرر في عمليات إعادة قسرية غير قانونية وبشكل سري وسريع لطالبي لجوء أو مهاجرين غير نظاميين في سواحل اليونان ومالطا وقبرص وإيطاليا لدول خارج الاتحاد الأوروبي، خصوصاً تركيا وليبيا، بموجب اتفاقات وتفاهمات ثنائية. ففي الشهور الأولى من هذا العام (2022)، أعادت اليونان نحو 40 ألف شخص لتركيا. انتشار فضائح وكالة فرونتكس وتورّطها في عمليات الإعادة القسرية دفعت رئيسها السابق، الفرنسي فابريس ليجيري، إلى الاستقالة في إبريل/ نيسان الماضي، كما صوّت البرلمان الأوروبي ضد منح الوكالة أموالاً جديدة قبل التحقيق بتورّطها في هذه الممارسات غير القانونية. ومع ذلك، لم تتوقف ممارسات الإعادة القسرية من السواحل الأوروبية لدول الجوار، ونجحت الوكالة في تأمين موارد مالية بلغت 5.6 مليارات يورو للقيام بمهامها حتى عام 2027، وقد مثلت هذه الميزانية زيادة بلغت 194% بالمقارنة مع تمويلها السابق، الأمر الذي يؤشّر على الأولوية القصوى التي يوليها الاتحاد الأوروبي لمواجهة الهجرة غير النظامية وعبور اللاجئين السواحل الأوروبية.
سيستمرّ التقارب الأوروبي مع السلطويات العربية، باعتباره الخيار الأسهل من منظور السياسة الأوروبية لحماية البوابات الأوروبية
وصل منع انتقال الأفراد من المنبع إلى ذروته في الدعم المالي والفني الذي منحه الاتحاد الأوروبي للسلطات الليبية في طرابلس منذ عام 2016، لمنع تسلل الزوارق من ليبيا، وإدارة معسكرات إيواء للمهاجرين غير النظاميين وطالبي اللجوء. وقد تسرّبت من هذه المعسكرات في أكثر من مناسبة صور وشهادات مؤلمة لقتل وتعذيب وسوء معاملة يعاني منها المعتقلون في هذه المعسكرات. منع تسلل المهاجرين وطالبي اللجوء من المنبع خارج الحدود وتكليف دول دولا أخرى باحتجاز هؤلاء الأفراد وفلترة ملفاتهم نظـير المال أو الدعم السياسي الأمني أصبحت الأكثر جاذبية للدول الغربية. وكانت أستراليا من أوائل الدول التي لجأت لهذا الأسلوب، عبر التعاون مع بابوا غينيا الجديدة لاعتقال المهاجرين غير النظاميين، وطالبي اللجوء في مراكز اعتقال شيّدت في جزر معزولة حماية لسواحل أستراليا. وفي عام 2016، فضحت المخرجة الأسترالية، إيفا أورنر، في فيلمها الوثائقي مطاردة اللجوء والعواقب الجسدية والعقلية لهذه السياسة على آلاف من الأشخاص الذين خضعوا للاحتجاز في هذه المعسكرات. وعلى شاكلة الخبرة الأسترالية، وقعت المملكة المتحدة في إبريل/ نيسان الماضي اتفاقية مع رواندا لاستضافة طالبي اللجوء والمهاجرين إلى المملكة المتحدة، نظير مساعدات مالية تقدّم للحكومة الرواندية. ويرغب الاتحاد الأوروبي اليوم في تعميم هذه التجربة في الدول العربية جنوب المتوسط، على شاكلة النموذج الليبي، بحيث تكون مواجهة تدفق المهاجرين واللاجئين إلى أوروبا خارج الحدود.
على الأرجح، لن تكون الحادثة المروّعة على الحدود الإسبانية المغربية الأخيرة، بل مرجّح تكرارها في دول أخرى جنوب المتوسط، طالما استمرّ حرص الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية على عدم تقديم أي ثمن مالي وسياسي نظير مواجهة تدفق المهاجرين واللاجئين من جنوب المتوسط إلى أراضيه، من دون الانحياز لسياسات خارجية جذرية تغير من الظروف السياسية والاجتماعية والأمنية التي تجعل دولا طاردة لشعوبها. لا يهم إذا كان الثمن تدمير حياة هؤلاء الأفراد، أو حرمانهم من حقهم المشروع في الحماية الدولية للاجئين. ما لم يحدُث تغير جذري لسياسات أوروبا في مواجهة الهجرة غير النظامية في المنطقة الأورومتوسطية، سيكون من الصعب الرهان على دور أوروبي جاد لدعم حقوق الإنسان أو الديمقراطية في البلدان العربية، وسيستمرّ التقارب الأوروبي مع السلطويات العربية، باعتباره الخيار الأسهل من منظور السياسة الأوروبية لحماية البوابات الأوروبية، لكنّه، بلا شك، ومن واقع خبرة شراكة أوروبا مع الاستبداد في سنوات ما قبل الربيع العربي وما بعده، مدخل إلى مزيد من الكوارث الإنسانية في هذه المنطقة.