مزايدات داخل الطائفة
يفهم كُثر من المتابعين للشأن العراقي أنّ تحرّكات زعيم التيّار الصدري، مقتدى الصدر، أخيراً، تهدف في الأساس إلى إحراج خصومه في كتلة الإطار التنسيقي، ومحاولة العودة إلى النشاط السياسي، من خلال التذكير بالاصطفافات السابقة؛ ما قبل انسحاب نوّابه من البرلمان في يونيو/ حزيران 2022. ولكنّ المسار الذي اختطّه الصدر لهذه العودة المُرتقبة يبدو مُحرجاً ويثير أسئلةً كثيرة، فمع الإعلان عن الشكل الجديد للتيّار الصدري تحت عنوان "التيّار الوطني الشيعي"، انتبه كثيرون إلى أنّ الصدر يستخدم لأول مرّة عنواناً سياسياً يحدّد الهُويّة الطائفية لتيّاره، بعد أن كان يعتمد مفرداتٍ لها دلالاتٍ عامّة؛ "تيّار الأحرار"، "سائرون"، وما إلى ذلك.
توضح مفردة "الشيعي" في اسم التشكيل السياسي الجديد للصدريين، ابتداءً، الجمهور المُستهدَف، وأنّ عمل هذا التشكيل السياسي سيكون داخل الدائرة الشيعية حصراً. أما صفة "الوطني" فتعني أنّه سيكون تيّاراً شيعياً، ولكن ليس بأهداف طائفية، وإنّما وطنية، وهي مفردة تبدو مُوجّهة إلى الحلفاء المُحتملين من خارج المكوّن الاجتماعي الشيعي. وضع مفردة "الشيعي" في العنوان، يبدو، من جانب آخر، كأنّه استجابة لشروط اللعبة، التي فرضتها أحزاب "الإطار التنسيقي" وتيّاراته التي غمزت كثيراً عقب آخر انتخابات من قناة الصدر، وأنّه ليس شيعياً تماماً. بينما كان المُتعاطفون مع التيّار الصدري ينتظرون ألا يستجيب لهذا الابتزاز السياسي، فلا يحتاج إلى تمييز هويته الطائفية في العنوان، لأنّ جمهوره الانتخابي معروف. لكنّ الصدر آثر الابتعاد أكثر عن "المتعاطفين"، والانجرار إلى لعبة المزايدات الطائفية، وأيّهم أكثر شيعية من الآخر؛ الصدر أم أحزاب "التنسيقي". ليفاجئنا بدعوات غريبة لا واقعية؛ مثل المطالبة ببناء مراقد أئمّة الشيعة في مقبرة البقيع في السعودية أو الدعوة لتحويل عيد الغدير الشيعي إلى عيدٍ وطني، ليسحب "التنسيقي" البساط من تحت أقدام الصدر، ويطرح مشروعَ العيد رسمياً في البرلمان، مثيراً عاصفة من ردّات الفعل المتنوّعة التي استهجنت هذا الأمر، لتصعّد أطرافٌ في "التنسيقي" بالدعوة إلى تحطيم تمثال نصفي يرمز للخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، موجودٍ منذ عقودَ طويلةٍ في إحدى ساحات حيّ المنصور في بغداد. لأنّه أحد أعداء الشيعة.
في لعبة المزايدات الطائفية، هذه، لا يرى الخصمان السياسيّان غير الحلبة الشيعية. هم لا يحاولون استهداف السنّة مثلاً، فلا غرض لهم بذلك، وإنّما كيف أكون شيعياً أكثر من خصمي الشيعي، ولا بأس بردّات فعل سنيّة غاضبة، فهذا يعزّز شيعيّتي (!) ولكن، في سبيل إحراز نقاط ضدّ خصم من داخل طائفتي، فأنا أخرّب الفضاء العام، وأسمّم الأجواء بخطابات لا معنى لها، ولا فائدة، وليس لها ارتباط بالمصالح الحيوية واليومية للمواطنين، سنّة كانوا أو شيعة أو من أيّ ملّة ودين وعقيدة.
قبل سنوات، حتّى الأطراف الشيعية المُؤيّدة لإيران، والممثّلة في كتلة الإطار التنسيقي البرلمانية، يترفّعون عن الخطابات ذات النبرة الطائفية، ويغلّفون تصريحاتهم بكلمات محايدة. أمّا الصدر، فكان يسبقهم بمراحل في التبرّؤ من الخطاب الطائفي وتجريمه، ومنها أنّ قرار اتخاذ عيد الغدير عيداً وطنياً كان قد طُرح في دورة برلمانية سابقة، والصدر نفسه هو من أسقطه، واتهم من طرح مشروع القرار بـ"عدم الوطنية"، ومحاولة إثارة "الفتنة الطائفية".
لا يعتقد كاتب هذه السطور أنّ الجمهور العام مُهتمّ كثيراً بمن هو أكثر شيعيّة من الآخر، وفي ساعة الجدّ، عند صندوق الانتخابات، فإنّ كلّ تيّار وحزب سيتعامل مع جمهوره التقليدي ذي الحجم التقريبي المفهوم، الذي لن يتغيّر بصورة مفاجئة. أمّا الكتلة الرجراجة وغير المسيّسة من الجمهور الانتخابي العام، وهي ربّما الأكبر في كلّ انتخابات، فإنّها تبحث عن صاحب الانجازات الفعلية أو من هو أكثر صدقاً في وعوده، ونسبة كبيرة من هذه الكتلة الرجراجة تعود أدراجها يائسة ومحبطة، من دون أن تغمس أصابعها في الحبر البنفسجي. والظنّ، أنّ التعويل الأكبر والحاسم يُفترض أن يكون على جذب أصوات هذه الكتلة، لا المبارزة الدونكيشوتية بسيوف الطائفة، وتفجير الحساسيات الطائفية، وتهديد السلم الأهلي، وإلهاء الجمهور العام بقضايا لا تليق بكيانات سياسية تدّعي أنّها تقود بلداً مثل العراق.