في رثاء محمد الشارخ... وإنّ صخراً لتأتمُّ الهداةُ به

14 مارس 2024

محمّد الشارخ يتحدّث إلى التلفزيون العربي

+ الخط -

فوجئ كثيرون في العالم العربي بالإعلان عن رحيل الأديب الكويتي عاشق اللغة العربية المخلص محمد الشارخ - رحمه الله - قبل أسبوع. لهذا الرجل الكويتي تاريخ عريق وعريض في المزاوجة الجميلة والذكية ما بين اللغة العربية ومعطيات التكنولوجيا الحديثة وأهم تطبيقاتها البرمجية المتقدّمة.

أما نحن، الذين تفتّحت أعيننا تكنولوجياً على حاسوب (كمبيوتر) "صخر" في ثمانينيات القرن الماضي، فنعرفه جيداً ونعرف ماذا قدّم، ونشعر بالامتنان الشديد لعقليّته التي طوّع من خلالها الحاسوب وتطبيقاته البرمجية المختلفة لما يناسب اللسان العربي، مخالفاً بما أقدم عليه ونجح فيه معظم التوقّعات المتشائمة على ذلك الصعيد، ومؤسّساً فكرة عظيمةً ظلت تتنامى في ما بعد، لتكون واقعاً يعيشه العرب الآن من خلال استخدام أجهزتهم الحاسوبية المختلفة بواجهات عربية سهلة الاستخدام!

محمّد الشارخ (1942-2024)، مؤسّس شركة صخر لبرامج الحاسوب في العام 1982، لتكون الشركة الرائدة في مجالها، وهو أول من طوّر برنامج القرآن الكريم وكتب الحديث باللغة الإنكليزية عبر الحاسوب في 1985، في فتح عظيم على العصر الجديد بهوية عربية إسلامية. كان - رحمه الله - الأول دائماً في كل ما يتعلّق باللغة العربية والعلوم الإسلامية من جهة والحاسوب من جهة أخرى.. وما زالت صورة جهاز "صخر" عالقة في أذهان جيل كامل نشأ في أحضان تلك المزاوجة الذكية والجميلة ما بين الحداثة والتراث في صورة حاسوب إلكتروني عربي متقدّم جدّاً في زمنه.. استوعب ليس القرآن الكربم وكتب الحديث الشريف والتراث العربي وحسب، ولكن أيضاً فكرة الألعاب المدهشة لعقول الصغار والكبار. 

واضحٌ أنّ الشارخ كان، في أفكاره ومشروعاته، ولا سيما ما يخدم فيها العربية، صاحب موهبةٍ إبداعيةٍ مبكّرة في الكتابة، لم يهملها وهو يتجاوزها نحو آفاق أرحب، فقد نشر أول قصة كتبها بعنوان "قيس وليلى" في 1968، ثم نشر ثلاث مجموعات قصصية، أولها "10 قصص" في 2006، و"الساحة" في 2012، و"أسرار" في 2017، كما نشر رواية "العائلة" في العام 2018.

وظلّت روح الشارخ الوثّابة تدفعه دائماً للحاق بالمستقبل محلّقاً بجناحي هويته الفكرية عربيا وإسلاميا متساميا على كل العقبات والصعوبات، في كل مشروعاته التي اتسعت أبعد من دائرة صخر وتبعاتها، فقد ساهم بحماسة شديدة في مشروع "كتاب في جريدة" بالتنسيق مع منظمة اليونسكو، عام 1997، كما شارك بتمويل عدّة مؤسّسات ومراكز فكرية، منها مركز دراسات الوحدة العربية والمنظمّة العربية للترجمة ومعهد العالم العربي في باريس. وكان أرشيف المجلات العربية على الإنترنت واحداً من أفكاره التي لا تنتهي عند حدود الدهشة. وكنتُ كلما قادني عملي أو شغفي إلى طريقٍ شقّه الشارخ أعود إلى زاوية بعيدة من ذكرياتي المتقاطعة معه.

عندما تخرّجت من جامعة الكويت في أواخر الثمانينيات رشّحني بعض أساتذتي في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في الجامعة للعمل بمشروع جديد يُعنى باللغة العربية. كانوا يروْن حبّي اللغة واهتمامي المبكّر بالأبحاث اللغوية، فضلاً عن قراءاتي العلمية الخالصة، أموراً كافية لأن تجعلني صالحة للعمل في ذلك المشروع الذي بدا لي غامضاً وأحدُهم يشرحه لي.

التقطتُ من الشرح مفردة "صخر" باعتباره الحاسوب العربي الأول، واسم محمد الشارخ باعتباره صاحب المشروع الرائد في زمانه وفي مكانه أيضاً. وبقية التفاصيل كانت نوعاً من الغموض الجميل والدهشة التي تُحيل من يعيشها إلى عوالم الاكتشاف والمستقبل!

لم تتح لي الاستفادة من تلك الفرصة الذهبية يومها، بسبب ظروف خاصة. لكنّ شغفي بـ"صخر" وعالمه الساحر ظل يتنامى بعد ذلك. وهو ما يفسّر ذلك الأسى الذي اكتست به روحي وأنا أتلقّى خبر رحيل رجلٍ ثمانيني، بدأت معرفتي به عبر "صخر" الذي تأتمُّ الهداةُ بهِ - وفقاً لتعبير الخنساء في رثائها صخراً أخاها - كأنّهُ عَلَمٌ في راسِهِ نارُ... ولم تنتهِ أبداً.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.