ما هو قبل المقدّس في القدس
الحدث المقدسي يفتح عيوناً كثيرة أغمضها التعب والأخطاء والملل واليأس حيال قضية فلسطين بما هي مسألة تحرّر وطني عالقة. في ما يجري اليوم تكثيف لكل ما يخص الحكاية: تهجير أصحاب الأرض من منازلهم، هذه المرة ليس من خلال القتل والمجازر، بل من خلال ما يحب العالم أن يسمعه: المحاكم و"سلطة إنفاذ القانون"، أي جنود وعناصر شرطة يطبقون المبادئ التأسيسية لإسرائيل: التمييز العنصري، التغيير الديمغرافي، محو أثر السكان الأصليين، التهويد، تأبيد حكم الأبرتهايد لكي يصبح "عادياً"، واستعمار كل الأرض. وما أدراك كيف تكون القرارات القضائية في مكان مثل إسرائيل، حين يتعلق الأمر بغير إسرائيليين أولاً، وبغير يهود ثانياً، وبفلسطينيين ثالثاً، ممن يشكل وجودهم تذكيراً يومياً بفضيحة دولة قامت على أرض لها أصحاب، وعلى أجساد بشر أُحِلَّ أناس مكانهم بكل أشكال العنف. حصل ذلك في معظم الأرض الفلسطينية منذ نكبة 1948، وقد حطّ رحاله في القدس منذ 1968. صحيح أن أي بقعة في غزة أو في النقب أو في أريحا تساوي أهميتها نظرياً أيّ شبر في الخليل أو في يافا أو الجليل أو القدس، إلا أن "حتميات" التاريخ والجغرافيا (إن وُجدت) وصدف الحياة والأديان، كلها جعلت من القدس شيئاً له ما يسمونه "خصوصية". قد يكون في ذلك ظلم، إلا أن الأمور تسير على هذا النحو دائماً، وإلا ما كان هناك شيء اسمه عاصمة أو مركز. تكثيف عناصر قضية ما، لا بد أن تكون له نقطة ارتكاز، يُفضل أن تقع جغرافياً في وسط البقعة، لكن ذلك لم يعد شرطاً.
الحدث المقدسي إذاً لا هو مفاجئ ولا هو طارئ ولا غريب. جولات مواجهة الاضطهاد العرقي في المدينة لم تهدأ منذ 53 عاماً، والمنازل ظلت في القلب منها. حتى الانتفاضات التي اتخذت من المسجد الأقصى عنواناً عريضاً لها، فإنها لم تكن ردة فعل دينية مقدسة بالنسبة إلى كثيرين، بل مسألة منازل ووجود لبشر في أرضهم. الدفاع عن هذا المكان بالنسبة إلى مسلمين ولغير مسلمين كثيرين، لعرب ولغير عرب أعدادهم وازنة، ليس دفاعاً عن إلهٍ أو دينٍ لا يحتاجان لدفاع من أحد على كل حال. الدفاع عن المسجد حتى بالنسبة إلى غير مؤمنين يصبح نخوةً تتصل بالوجود، أي إن هذا المبنى هو لنا، أكنا نرغب في أن نصلي فيه أو اعتبرناه رمزاً عمرانياً عاماً أو تجسيداً ثقافياً لهوية شعب، فهو لنا، ملكية عامة وخاصة في آن واحد، كان يمكن أن نفتحه لكل شعوب الأرض ودياناتهم لو كان المكان محرراً، لو لم يكن هناك مستعمِر يستوطنه ثم يعرض على أصحاب الأرض إذناً لهم بدخوله لساعة في اليوم أو لمرة في الأسبوع وبشروطه. عندما تُختصَر قضية الأقصى في حيّز ديني مقدس حصراً، سنخسر حتماً. الأقصى مثل القدس، قضية استعمار وإنسان وتهجير ومنازل وأصحاب أرض ومستوطن تفوّض المحكمة الإسرائيلية إليه إجبار صاحب المنزل في الشيخ جراح على إجلاء البيت، وإلا عاد في المرة الثانية بصحبة الجرافة والدبابة وشرطة مدججة بالسلاح لتنفيذ أحكام تستند إلى وثائق محرّفة أو مختلقة أو مبنية على أمر واقع فرضه الاحتلال منذ عقود بالإرغام على التوقيع والإجبار على البيع والمغادرة.
إنهم بضعة عشرات الآلاف من المقدسيين المقيمين في المدينة، لكنهم عبء على المستعمِر. التخلص ممن بقي منهم مسألة وجودية لإسرائيل. سرديتها لا تكتمل فصولها من دون شطب "الأغيار". من لا تُفتح عيناه أمام هذه الحقيقة، فهو لا عينين له. أما من يعترف بها، ثم يستدرك بأن كل الخطأ حاصل في طريقة "إدارة" القضية الفلسطينية، وأن الحل "سياسي" بعيداً عن النضال والمواجهة، فذاك غالباً لن يُسمع له صوت تعليقاً على الحدث المقدسي الحالي. غداً إن هدأت الأوضاع، سيبدأ هذا الفلان الكتابة والكلام من الصفر، وكأن شيئاً لم يحصل، وسيخبرنا أن منطق المواجهة هو ما أوصل الفلسطينيين إلى حيث هم. ستسأله عن الجدوى التي حصدتها مفاوضات الحل السلمي وعن رمي إسرائيل بنود أوسلو في المزبلة، حينها على الأرجح سيغيّر الموضوع، وسيصوّب على صواريخ تنطلق من غزة وتخطئ هدفها أحياناً.