مانديلا في البال

02 اغسطس 2023
+ الخط -

ليس كثيراً أن يظلّ نيلسون مانديلا في البال، وأن يجمع العالم على الاحتفاء بمولده في 18 يوليو/ تموز من كل عام، وقد أقرّته الأمم المتحدة يوماً عالمياً. وليس غريباً أن يُذكر اسمه مجرّداً من كل لقب، فالعالم كله يعرفه عن كثب، فهو واحدٌ من قلة قليلة من القادة والزعماء الذين أدركوا أنّ عليهم أن يجنّبوا بلدانهم المخاطر، حتى لو على حساب كبريائهم الشخصي، واعتدادهم بأنفسهم، وأن يقدّموا لشعوبهم مثالاً حياً على الجلد والصبر، والقوة المعنوية، وإن تراجعوا خطوة أو اثنتين أمام مكائد أعدائهم.

كانت فلسفة مانديلا تقوم على فرضية أنّ استخدام السلاح في مواجهة قوى غاشمة وغادرة، وقادرة على التفوّق، ليس دائماً هو الحلّ الأمثل، وليس هو الخيار الوحيد لنيْل حقوق الشعوب، بل ربما ألحق هذا الخيار بقضايا الشعب أفدح الأضرار، وقد يسبّب للبلاد المعنيّة الدمار. وقد نجح في تطبيق فلسفته هذه، وصولاً إلى تحقيق النصر لشعبه، رغم أنه تكبّد معاناة طويلة، أقلها أنّه أقام في السجن 27 عاماً.

كان مانديلا قد فتح عينيه وسط بيت طيني في قرية صغيرة من أرياف جنوب أفريقيا. يومها كانت بلاده ترضخ لنظام قمع عنصري، يقوم على الفصل بين السكان الأصليين السود كادحي الأرض، ورعاة الأغنام، وأجراء مناجم الماس والذهب واليورانيوم، وبين سادة البلاد البيض الآتين من أوروبا فائقي الثراء، ومحتكري الثروة والسلطة والقرار.

انضمّ في سن العشرين إلى "المؤتمر الوطني الأفريقي" الذي مثل مظلّة سياسية جامعة للسود، لكنه لم يكن راضياً عن سياساته القائمة على مهادنة السلطة، والقبول بالأمر الواقع ريثما تحين ساعة الخلاص، ونجح في بلورة سياسةٍ جديدةٍ تعتمد على الكفاح السلمي، والدعوة إلى العصيان المدني، ربما يكون قد استقى نظريته هذه من أفكار الزعيم الهندي المهاتما غاندي الذي كان قد أقام في جنوب أفريقيا أزيد من 20 عاماً، حاملاً راية الدفاع عن الفقراء الهنود العاملين هناك، وترك وراءه عندما عاد إلى بلاده رصيداً ثرياً من الكتابات التي تبشّر بأفكاره.

كانت فلسفة مانديلا تقوم على فرضية أنّ استخدام السلاح في مواجهة قوى غاشمة وغادرة، وقادرة على التفوّق، ليس دائماً هو الحلّ الأمثل، وليس هو الخيار الوحيد لنيْل حقوق الشعوب

تجسّدت المعاناة الإنسانية التي عاشها شعب جنوب أفريقيا لدى مانديلا، وهو الذي اختبرها بنفسه سجناً وتشريداً واضطهاداً، وجعلته خصوصية تجربة بلاده يفكّر كيف يمكنه بناء دولة ذات قوة مواطنة قادرة على دفع حركة التغيير، وعلى فتح الطريق أمام نظام ديمقراطي يحقّق الحياة للجميع، السود والبيض، ويقضي على نظام التمييز العنصري المقنّن بقوة التشريعات التي صنعتها سلطة البيض الأغراب خلافاً للعدل، وقدّر أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا عبر حركة روحية أخلاقية شاملة، تضمن تحويل الثقافة الرثّة التي تجسّدها الفئة الحاكمة إلى نموذج إنساني عقلاني، يكرّس روح التسامح بين السود والبيض، و"الشجعان لا يخشون التسامح"، ومقرّراً أنه "لا يوجد إنسان يكره إنساناً آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه. الناس تعلموا الكراهية، وإذا كان بالإمكان تعليمهم الكراهية بإمكاننا أن نعلمهم الحب". هكذا كان يفكر مانديلا، وهكذا وضع مستقبل الوطن فوق الإساءات والآلام الشخصية التي لها تاريخ عريض، والتي تحتاج زعيما من عيار استثنائي، يستطيع أن يعمل على بناء نظام سياسي جديد لبلاده من نقطة الصفر، من دون التوقف عند عقد الحساسية أو الكراهية أو الإقصاء، يستلهم مشاعر التسامح والمصارحة ورأب الصدوع المتوارثة من الماضي، ولم يكن بين رجال "المؤتمر الوطني" من هو أكثر جدارة منه بمسؤولية كهذه. وهكذا حظي مشروعُه بشعبية كبيرة في فترة صعبة، كانت بلاده خلالها أشبه بقنبلة موقوتة تنتظر من يفجّرها، وبدت على شفا حرب أهلية محتملة جرّاء تعنّت سلطة البيض الماكرة وإصرارها على عدم القيام بأيّ إصلاحات تضمن إجراء تغييرات هيكلية في البنية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، تدفع باتجاه إشراك السكان الأصليين السود في القرار، لكن المشهد بدا، بالنسبة لمانديلا، مهيّأً تماماً للبدء بالتغيير الذي أراده.

خَدمته في تلك اللحظة التاريخية مواقف دول وقوى وحركات عالمية فاعلة شعرت بالحاجة لاستئصال نظام جنوب أفريقيا العنصري الذي أصبح عبئاً على العالم المتحضّر، ولم يعد يتفق لا مع روح العصر، ولا مع المعايير الإنسانية التي أقرّها المجتمع الدولي، والتي ضمنت الحرية والكرامة والحقوق للبشر كلهم، وحدها الولايات المتحدة وبعض القوى الغربية سعت إلى إجهاض خطة مانديلا، إذ وضعت اسمه على قائمة الإرهابيين الدوليين، إلّا أنّ الضغط العالمي القوي أثمر، في النهاية، إطلاق سراح مانديلا من سجنه الذي أورثه أمراضاً لازمته في البقية الباقية من حياته، حتى مات جرّاءها لاحقاً، كما أثمر إصلاحاتٍ نوعيةٍ في الحكم، وإقامة انتخابات حرّة حققت الأغلبية المطلقة لحزب المؤتمر الوطني، ليصبح مانديلا أول رئيس للنظام الجديد، وليشرع في وضع أحلامه على الأرض، متعاوناً مع السياسي الأبيض ويليام دي كليرك، على إرساء حقبة جديدة لاتحاد جنوب أفريقيا تحقّق السلام والأمن لشعبه، وقد استحقّا معاً على مأثرتهما هذه جائزة نوبل للسلام.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"