ماذا فعلت مذبحة رابعة بمصر والمصريين؟
كفيلةٌ أحداث السنوات العشر التي مضت في مصر منذ وقوع الفض الدموي لاعتصامي ميداني رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس/ آب 2013 لإدراك المغزى السياسي والاجتماعي والإنساني لهذه المذبحة، والتي ستبقى حدثاً مفصلياً في ذاكرة التحوّلات السياسية لمصر، وتاريخ انهيار الديمقراطيات الناشئة في دول الجنوب. لقد قتل في يوم واحد ما لا يقل عن ألف مصري في مشهد مروّع لم تعرفه مصر منذ استقلالها الكامل عن المستعمر، اعتبرته "هيومان رايتس ووتش"، في تقريرها في أغسطس/ آب 2014، بمثابة جريمة ضد الإنسانية، نظراً إلى أن فض الاعتصامات تم في ظل هجوم واسع ومنهجي ضد مدنّيين، ومدفوع ببواعث سياسية، واستمرّ فترة طويلة قبل يوم الفضّ وبعده.
كانت السلطة الحاكمة مدركة قبل فضّ الاعتصام ما سينجُم عنه من خسائر في الأرواح. وتكفي الإشارة إلى التصريحات التي تناقلتها وسائل الإعلام عن مسؤولين في ذلك الوقت، في مقدمتهم رئيس الوزراء السابق حازم الببلاوي ووزير الداخلية السابق محمد إبراهيم، عن تقديرات السلطة أعداد القتلى الكبيرة المحتملة نتيجة عملية الفضّ. وطبقاً لتقرير صدر للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، الأوراق الرسمية لعملية فضّ الاعتصام في "رابعة"، وتقرير اللجنة الحكومية الرسمية التي شكّلت في ديسمبر/ كانون الأول 2013، رد فعل للإدانات الدولية الواسعة للجريمة، تحمل، هي الأخرى، إدانة للدولة وأجهزتها التنفيذية والأمنية. وليس مفاجأة أن السلطة أخفت المحتوى الكامل لهذا التقرير عن الرأي العام المصري والدولي.
كان استخدام القوّة الغاشمة في فضّ الاعتصام في ميدان رابعة العدوية وليد لحظة استقطابية وشعبوية بامتياز، مهّدت لها ووظّفتها السلطة العسكرية الصاعدة منذ إطاحة الرئيس الراحل محمد مرسي لتحقيق شروعية شعبية للعهد السلطوي الجديد، وإجراءاته الانتقامية والتعسّفية تحت مظلة بالقانون أو خارج إطاره، وتعميق الانقسامات بين القوى السياسية المصرية، بحيث تصبح المؤسّسة العسكرية اللاعب الأوحد في المشهد، والأكثر استجابة لتطلعات المصريين. كانت "رابعة" اللحظة التي طوّعت فيها السلطة المصريين على قبول ارتكاب انتهاكاتٍ جسيمةٍ لحقوق عشرات الألاف من المصريين، ثم استمرّت سنوات، بذريعة حماية البلاد من الفوضى والإرهاب.
لن يخدم تزييف حقيقة مأساة "رابعة" أو طمسها سوى استمرار السلطوية وتجدّدها في مصر، وإعادة إنتاج انتهاكاتها الجسيمة
كان ما جرى قبل فضّ الاعتصامين في الميدانين وخلاله وبعده كاشفاً لما قد ساد في مصر في ذلك التوقيت من حالة "هيستريا جماعية" تمجّد العنف والدم وتبرّرهما بعد سحب صفة الإنسانية في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي عن مصريين أخرين مختلفين سياسيا وأيديولوجياً.
يتسبّب هذا النوع من الانقسامات المجتمعية والصراعات الصفرية داخل النظم السياسية ذات الطبيعة المؤسّسية الهشّة، لمآسٍ إنسانية. وعادة ما يمهّد الطريق أمام قيام ديكتاتوريات عسكرية لا تفرّق في حكمها الدموي بين خصومها وحلفائها الذين أتوا بها إلى السلطة. في سبعينيات القرن العشرين، خاضت جيوش دول كثيرة في أميركا اللاتينية، مثل باراغواي وبوليفيا والبرازيل وتشيلي وأوروغواي والأرجنتين، بالتحالف مع قوى اليمين، وبدعم شعبي، حملات تطهير وإبادة ضد اليسار والاشتراكيين وداعمي الديمقراطية، والذين صنّفوا جميعهم بقوى الإرهاب والتمرّد في تلك الفترة تبريراً لعمليات القتل خارج نطاق القانون والاختفاء القسري التي سادت طوال السبعينيات والثمانينيات. وكانت الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 ضد قبائل التوتسي نتاجاً لسنواتٍ من الشحن والكراهية والشيطنة المنظّمة التي جعلت دماءهم مستباحة بمباركة شعبية من الفصيل العرقي المناوئ.
سيذكًر التاريخ أن طغيان السلطة وانتهاكاتها الجسيمة حقوق الإنسان في الأعوام الأولى لما بعد انقلاب 3 يوليو (2013) كانت بمباركة من قطاعات واسعة من المجتمع المصري، وفي ظل توريط أخلاقي للنخبة السياسية الثقافية والإعلامية الليبرالية واليسارية، والتي انساقت للدعاية السياسية والإعلامية الموجّهة ضد فصيل سياسي واسع من المصريين، والمشاركة في تقديم الجيش مخلّصا للبلاد. نجاح السلطة في طمس حقيقة جريمة رابعة وملابساتها عبر الدعايات الكاذبة والسرديات المزيّفة التي روّجتها في الخطابات السياسية الرسمية والإعلام والدراما التليفزيونية الرمضانية لا يعدو كونه نجاحا مؤقتا موجّها لكسب الرأي العام المصري وتشتيته، ولن يصمد أمام التوثيق التفصيلي الذي جرى في مذبحة رابعة من منظمات حقوق الإنسان المصرية والدولية، والصحافة العالمية، وذاكرة وشهادات من عايش هذه المذبحة. لن يخدم تزييف حقيقة مأساة "رابعة" أو طمسها سوى استمرار السلطوية وتجدّدها في مصر، وإعادة إنتاج انتهاكاتها الجسيمة، وأي محاولة جارية اليوم وسط صفوف المعارضة المصرية للدفع بمسار الإصلاح السياسي ستبقى مرهونةً بمكاشفة ومصارحة كاملة لما فعلته مذبحة رابعة بمصر والمصريين، وبالتفكير في سبل الانتصاف العادلة للتعافي المجتمعي من إرثها الثقيل الإنساني والسياسي.