ماذا تعني ثماني سنوات في عمر الشعوب؟
على هامش افتتاح مشروعات في قناة السويس، الأسبوع الماضي، فاجأنا الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، مجدّدا بتحميل ثورة 25 يناير (2011) مسؤولية التدهور الاقتصادي الحاصل منذ يوليو/ تموز 2013. المفاجأة الأكبر أنه بدأ يحمّل 2013 أيضا جزءا من المسؤولية عن هذا التدهور الكبير في أوضاع المصريين الاقتصادية والاجتماعية، قائلا "خسرنا 450 مليار دولار بسبب ما جرى في 2011 و2013"، متهما المصريين بعدم دفع تكلفة ما حدث حينها والتهرّب منه، باعتبار أنّ ما حدث كان له تأثير مدمّر على الاقتصاد، وكأنّه يتنصّل من المسؤولية تماماً، وكأنّ الزمان يتوقف عنده في العام 2013، ليلقي عليه وعلى ما قبله كلّ أزماته، بينما هو العنصر الوحيد الذي استمرّ في مناصبه مع الترقي منذ 2011، وربما لولا هذان الحدثان ما سمعنا به.
وبغض النظر عن أنّ هذه أرقام لا مصدر لها ولا سند، لكنّنا إذا ناقشنا المنطق العام لها فسنجده مختلا بالكلية، فلو أنّ المصريين جميعا ناموا منذ يناير/ كانون الثاني 2011 إلى 3 يوليو/ تموز 2013، أو حتى توقفوا عن العمل والإنتاج تماما في هذه الفترة، وظلت جهات خارجية تنفق عليهم، فلا يمكن بأي منطق اقتصادي القول إن الاقتصاد المصري خسر ضعف حجمه في سنتين، ففي 2011، كان الناتج المحلي الإجمالي لمصر يصل إلى 219 مليار دولار زاد إلى 236 مليارا عام الثورة، ثم إلى 279 مليارا في 2012 و288,4 مليار دولار في 2013. أي أنه كان يتزايد، وإذا كان هناك انكماش فهو في ربع واحد من عام 2011، وبقية الفترة نمو حقيقي أبطأ قليلا، لكنه يبقى أفضل من معدل النمو الحقيقي للفترة من 2014 – 2021، بل إن نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي في 2013 كان عند 3262 دولارا، بينما متوسط الفترة نفسها 3238 دولارا، أي أنه بعد ثماني سنوات من حكم السيسي، انخفض متوسط نصيب الفرد من الناتج أكثر من 25 دولارا.
واستمرارا لهذه الفرية، يقول الرجل "الناس اللي بتقول الديون زادت إنتو ليه مش عايزين تدفعوا تكلفة اللي عملتوه في 2011 و2013؟". وكأنّ المصريين لم يدفعوا بعد كلفة هذين الحدثين المتناقضين أهدافاً وأدواتٍ وغايات، سواء بحياة عشرات الآلاف منهم خلف القضبان عدة سنوات أو بوفاة واستشهاد آلاف منهم سواء بأيدي السلطة أو الإرهاب أو الفقر والجوع والمرض.
لم يشارك المصريون أية مشاركة حقيقية في إقرار أيٍّ من السياسات أو مراجعتها، عبر أية مؤسّسات تمثلهم على الإطلاق
لن تلغي كل هذه المحاولات البائسة لتلبيس الثورة والشعب خطايا السلطة، وفشل سلطات ما بعد يوليو/ تموز 2013، حقائق أن الاقتصاد المصري كان ينمو، رغم أنّ التحدّيات الإقليمية والدولية كانت أشدّ وأقسى، وهذا لا ينفي أنه كان في وسع أسوأ مسار طبيعي من دون انقلاب عسكري أن ينتج وضعا أفضل من الوضع الحالي، حيث داست السلطة على كرامة الجميع، وتستنكر صراخهم حاليا، وتريدهم أن يتحمّلوا أكثر، بينما هي تنفق على مشروعاتٍ ومشترياتٍ لا جدوى منها بالنسبة لهم. والشيء الوحيد الذي فعلته هذه السياسات فيما يتعلق بالدين الخارجي هو مضاعفته قرابة أربع مرّات من 43,2 مليار دولار في يونيو/ حزيران 2013 إلى قرابة 165 مليار دولار، وفقا للبيانات الرسمية التي يُصدرها البنك المركزي المصري، ولم يشارك المصريون أية مشاركة حقيقية في إقرار أيٍّ من تلك السياسات أو مراجعتها، عبر أية مؤسّسات تمثلهم على الإطلاق، حيث تكاد تستبعدهم السلطة السياسية من أي ممارسة لحقوقهم منذ جمعة التفويض المعروفة في يوليو/ تموز 2013.
وإذا تجاوزنا عن هذا، ونظرنا إلى دولٍ مرّت بأزمات أشد وطأة مما مرّت به مصر في 2011 و2013. هذا إن سلمنا أن الثورات هي الأزمة، وليست تعبيرا عن انتفاضة في وجهة الإدارات بالأزمة ومطالبات مشروعة بتصحيحها وتغييرها إلى الأفضل، فإنه يمكن أن يُشار إلى تجربة كالأرجنتين، ففي السنوات الثماني منذ 2002 إلى 2010، خفضت الأرجنتين الفقر المدقع 1.9 دولار يوميا من 16.9% من السكان إلى 1.9%، كما خفضت نسبة الفقراء عند خط 3,2 دولارات يومياً من 14% إلى 2% في الفترة نفسها، وهي الخارجة من ثورة واضطرابات سياسية وإفلاس وإغلاقات كبيرة للمصانع وهروب جماعي للمستثمرين الأجانب والمحليين.
وإذا قال لنا النظام إن هذه أنظمة في دول صغيرة السكان، فإننا يمكن أن نذهب إلى أقصى الشرق الآسيوي، ونشير إلى بلد مثل إندونيسيا بتعداد سكاني أكثر من ضعف سكان مصر مرّة ونصف المرّة، ففي الثماني سنوات (2013 – 2021)، خفّضت إندونيسيا الفقر المدقع 1,9 دولار يوميا من 7,3% من السكان إلى 2,2%، كما خفضت نسبة الفقراء عند خط 3,2 دولارات يوميا من 10% إلى 4% في الفترة ذاتها، وهي التي مرّت باحتجاجات ومشكلات عميقة، بل وباختلافات عرقية ودينية عميقة وصراعات سياسية لا تُقارن بما في مصر. ثماني سنوات في هذه التجارب التي ذكرناها وعشرات التجارب التي لا يتّسع مجال لذكرها كانت أكثر من كافية لتصحيح أوضاع اقتصادية واجتماعية أكثر كارثيةً مما كان عليه الوضع في مصر عشية يوليو/ تموز 2013 بعشرات المرّات.
ما تحمّله المصريون من نتائج كارثية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية لم يتحمّله شعب آخر في ثماني سنوات
الأرقام الرسمية موجودة لدى الدولة وأجهزتها، ولدى البنك الدولي الذي تم الرجوع إليه في كل بيانات هذا المقال، ويمكن مراجعتها. ويمكن للمواطنين المصريين الذين يراد تحميلهم مسؤولية تلك السياسات ونتائجها أن يسألوا عشرات الأسئلة عمّن ضاعف ديون مصر أكثر من أربعة أضعاف في أقل من ثماني سنوات، للإنفاق على مشروعاتٍ من دون دراسات جدوى؟ ومن باع المصانع، وقام بتسييل أصول الدولة المصرية من المصانع والمباني والأراضي بأبخس الأثمان؟ ومن حبس وعذّب وقتل أكثر عدد من المصريين؟
إذا كنّا نريد تحميل الشعب المسؤولية، علينا أن نصارحه بوضعه، وبالأرقام التي تهمه وتتعلق بمعدلات التفاوت والفقر المدقع و الفقر متعدّد الأبعاد بالإنفاق الحقيقي على الصحة والتعليم والسكن، وبالأرقام الخاصة ببطالة الشباب والفقر، رغم العمل وتدهور الأجور الحقيقية، وأن نقارن ما تحمّله هذا الشعب بما يمكن أن تكون شعوبٌ أخرى قد تحمّلته. وفي هذا الميزان، ما تحمّله المصريون من نتائج كارثية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية لم يتحمّله شعب آخر في ثماني سنوات، من دون نتيجة إيجابية واحدة، ثم يلام حاليا بأنه لم يتحمّل بما يكفي، فأي منطق هذا؟
ثماني سنوات من عمر الشعب في إندونيسيا وفي الأرجنتين عنت خروج ملايين المواطنين من دائرة الفقر والجوع وتدهور الخدمات العامة، بينما ثماني سنوات من عمر المصريين عنت سقوط الملايين منهم في دائرة الفقر والجوع وتدهور الخدمات العامة، ثم ما زالوا يلامون على عدم تحمّلهم مسؤولية سياساتٍ لم يستشرهم أحدٌ فيها.