مائة عام من الصمود
يحتفل الأردنيون هذا العام بمرور مائة عام على تأسيس الدولة، في 1921. وإذا كان هنالك كلمة واحدة يمكن أن تعنون مرور قرن على بدء النظام السياسي الأردني، فهي مصطلح "الصمود"، فمنذ اليوم الأول واجه الكيان السياسي الجديد تحدّيات عاصفة، وفي أحيانٍ كثيرة وجودية.
وتكمن المفارقة الكبرى في أنّ النظام السياسي في الجغرافيا الصغيرة بمواردها المحدودة لم يكن في نظر لاعبين دوليين وإقليميين كثيرين، وفي أحيان بعض أبنائه، مرشّحاً للاستمرار، وقد تكون الدولة نفسها كانت في مهبّ الريح في أوقات عصيبة، لكنهما (الدولة والنظام) بقيا واستمرّا وتجاوزا أوضاعاً قاسية، فيما انهارت أنظمة ودول كانت تبدو أكثر رسوخاً وقوة ونفوذاً.
واجهت الدولة تحدّيات التأسيس في النصف الأول من القرن العشرين بالانتقال من جغرافيا مرتبطة بالمناطق المحيطة، وقبائل بدوية وتكوينات فلاحية، ثم بعد الاستقلال، 1946، دخلت في مرحلة البناء والاستمرار، وواجهت أوقاتاً عصيبة في الخمسينيات مع المد القومي والناصري وانقلاب 1958 على النظام الهاشمي في العراق (وكان حينها جزءاً من فدرالية أردنية - عراقية هاشمية)، ثم حرب الـ67 مع خسارة الضفة الغربية، أي نصف المملكة، فالسبعينيات حيث المواجهات القاسية بين الدولة والفدائيين، وربما ما لا يعرفه كثيرون أنّ الأردن من الدول النادرة في العالم التي أبلغت السفير الأميركي حينها بأنّه شخص غير مرغوب فيه، وأنّ عليه مغادرة البلاد خلال 48 ساعة.
من أراد أن يقرأ قصة الصمود ما عليه إلّا العودة إلى كتاب "من السلاح إلى الانفتاح .. سيرة زيد بن شاكر" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2019)، الذي يقدّم سردية عميقة لمحطّات التحدّي والصمود، ويكفي أن يُعرف أنّ ثلاثة من رؤساء الوزراء الأردنيين تم اغتيالهم وقتلهم في ظروف صعبة، وكذلك الحال الجدّ المؤسس الملك عبد الله الأول في بداية الخمسينيات.
يستذكر الأردنيون تلك المحطات وأولئك الرموز اليوم، وهم يشعرون بأنّ الصمود كان بثمنٍ غالٍ، وأنّه جاء بتضحياتٍ كبيرةٍ وجهد وتعب، حتى أصبحت هذه الدولة الصغيرة، ذات الموارد المحدودة، من الدول الراسخة والمستقرّة، وبات المجتمع الأردني الذي كابد وعانى في مراحل سابقة من المجتمعات المتميزة بالتحضّر والتعليم والمؤسسات السياسية القوية.
كان الأمير زيد بن شاكر يردّد، كما ينقل عنه المقرّبون (في كتاب "من السلاح إلى الانفتاح")، أخشى أن يأتي زمن لا يعرف الأبناء ماذا فعل الآباء حتى حافظوا على هذا البلد؟! وربما هذه الجملة تصلح لتكون مفتاحاً للاحتفالات الحالية بمئوية الدولة، في وقتٍ لم تتراجع التحدّيات، ولا التهديدات، بل أخذت طابعاً مختلفاً ومغايراً، طالما أنّ قدر الأردن أن يكون جيواستراتيجياً في منطقةٍ ملتهبةٍ غير مستقرة، ومن دون موارد طبيعية، معتمداً على قدراته الذاتية في الإبحار السياسي والاستمرار الإنساني والثقافي.
أكثر ما يحتاجه الأردن اليوم في احتفالات المئوية الجديدة هو تلك الرؤية النقدية الجديّة لمقارنة سردية المرحلة السابقة، بكل ما حملته من مخاطر وتحدّيات وتهديدات وآمال، وبما حمله الآباء والأجداد من آلام وطموحات لبناء سردية جديدة لما يمكن أن يقوم به الأبناء، وللتغير في طبيعة التحديات، ولما ينبغي أن يتم عمله كي لا يكون الوطن أسير التغني بالتاريخ والماضي.
لعلّ ما يلاحظ اليوم في أوقات كثيرة هي تلك النوستالجيا الأردنية التي تستذكر الرموز الوطنية والمحطات التاريخية والمراحل السابقة، وهي ذاكرةٌ جماعيةٌ مهمة وضرورية للاستمرار والبناء عليها، لكنّها تصبح مرضاً في حال كان هنالك شعور بأنّنا اليوم عالقون، أو أن الوضع الحالي يثير القلق أكثر ما يثير الاطمئنان، أو أن هنالك ضبابية في رؤية المرحلة المقبلة والسردية - الحلم لتحقيق الأهداف المنشودة.
من المرعب أن يسود شعورٌ لدى نخب وشرائح عريضة أنّنا نتراجع ولا نتقدم، وأنّنا عاجزون عن رؤية المربعات القادمة لخطواتنا، أو أن نفتقد النخب المطلوبة ورجال الدولة القادرين على صناعة الحلم الجديد، وأن تكون الدولة التي بنيت على أكتاف الشباب خلال العقود الماضية يعيش شبابها اليوم شعوراً بالتهميش والفجوة بينهم وبين مؤسساتهم، ولعلّ هذا الشعور يمثّل الزاوية الأولى للمراجعات المطلوبة على أعتاب المئوية الجديدة.