مؤشّرات انتخابات باهتة في تونس

15 أكتوبر 2022
+ الخط -

انطلق الإعداد الرسمي في تونس للانتخابات التشريعية الرابعة منذ سنة 2011. ولكن، خلافا للمرّات السابقة الثلاث، يجرى الإعداد لهذه الانتخابات المزمعة في 17 ديسمبر/ كانون الأول المقبل ضمن ظروف سياسية واجتماعية مختلفة شكلا ومضمونا... عمليا، بدأ التحضير لها من خلال انطلاق المرشّحين المفترضين في جمع التزكيات في انتظار تقديمها لهيئة الانتخابات ما بين 17 و24 أكتوبر/ تشرين الثاني الحالي للحسم في من استوفى شروط الترشّح، ويسمح له القانون بخوض الانتخابات. وفي ظل قانونٍ يقوم على الترشّحات الفردية، ويفرض جمع التزكيات، أي عددا محدّدا من إمضاءات الناخبين الذي يؤيّدون المرشّح ضمن شروطٍ يحدّدها القانون، حيث ينبغي أن يكون نصف الموقعين من النساء، وأن يكون ربعهم من الشباب، ما أحدث حالة تعجيزية واضحة لدى المرشّحين، وفتح المجال واسعا لشراء التزكيات، الأمر الذي أثار حفيظة رئيس الجمهورية ذاته الذي وضع القانون، وهو يتصوّر أنه سيكون عائقا أمام الفساد الانتخابي، فإذا به يفتح الباب واسعا أمام المحظور، وهو ما دفعه إلى إعلان تعديله القانون الانتخابي، وإعادة صياغته، رغم الانطلاق الفعلي للعملية الانتخابية.

واقعيا، يلقي الوضع السياسي والاجتماعي بظلاله على الاستعدادات الجارية للانتخابات الجديدة، حيث تُمكن ملاحظة حالة من الفتور في الاهتمام بحملات جمع التزكيات، لعوامل مختلفة، أهمها غياب الأحزاب القادرة على التعبئة وتنشيط الجمهور وقلق المواطن، بسبب الوضع الاقتصادي البائس، حيث لا يجد مجالا للاهتمام بتزكية المرشّحين، بقدر ما يمضي غالبية وقته في السعي إلى الحصول على المواد الأساسية، حيث الصفوف الطويلة أمام المراكز التجارية ومحطّات الوقود، بالإضافة إلى غياب فكرة البرامج الانتخابية، خصوصا أن دور البرلمان، حسب دستور 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2022، هو مجرّد مساعد للسلطة التنفيذية، فهو ليس مصدرا لتشكيل الحكومات، كما كان يجري في الفترة الديمقراطية السابقة، بل ولا يملك حتى سلطة مساءلة الوزراء ومحاسبتهم، باعتبار أن أي مساءلةٍ للحكومة قد تفضي إلى حل البرلمان، حسب الدستور الجديد الذي وضعه الرئيس.

نتائج الانتخابات رهينة شفافية العملية الانتخابية ومصداقية الهيئة المشرفة عليها

رغم أن المسألة الانتخابية هي أساسا تقنية لاختيار من يمثّل الشعب في البرلمان، إلا أنها شرط أساسي في أي نظام سياسي يحترم الحريات، ويعتبر نفسه ديمقراطيا، فنتائج الانتخابات هي رهينة شفافية العملية الانتخابية ومصداقية الهيئة المشرفة عليها، ولا يمكن أن ننتظر تمثيلا حقيقيا لأي شعبٍ من دون توفّر هذه الشروط المركزية.

كان واضحا أن القانون الانتخابي الجديد جاء مفصّلا لإقصاء الأحزاب السياسية، أو على الأقل الحدّ من نفوذها. ولكنه في المقابل فتح المجال أمام ظهور النزعات العشائرية والعائلية، حيث لم يعد الدافع أمام تأييد المرشحين العامل السياسي أو الأيديولوجي، وإنما الحسابات الشخصية والمحلية، وهو ما يمثل ردّة حقيقية عن طور المجتمع المدني والسياسي الذي تشكّل في تونس منذ عقود، وازدادت أهميته تدريجيا في العشرية الماضية. ومن المعلوم أنه بعد تبنّي دستور جديد في السنة الحالية، وما تم إعلانه عن تنظيم انتخابات برلمانية في شهر ديسمبر/ كانون الأول من هذا العام، يصبح البحث في طبيعة المشهد الذي يمكن أن ينبثق عن المرحلة الجديدة محلّ تساؤل جدّي وضروري، فالأحزاب السياسية التي كانت تتنافس في ظل دستور 2014 على نيل ثقة الناخبين، وغايتها الوصول إلى الحكم، أو المشاركة فيه، لم يعد هذا الأمر واردا ضمن أجنداتها الحالية على الأقل في الأفق المنظور.

لن تكون للانتخابات أي أهمية سياسية، فهي تُقصي الأحزاب والحساسيات الأيديولوجية، وتقتصر على أفرادٍ يفتقرون إلى الإشعاع والتأثير

ومع صدور القانون الانتخابي الجديد، أصبح سقف طموحات الأحزاب متدنيّا لعاملين، أولهما أن هذا القانون الذي تولى رئيس الجمهورية إعداده لا يخرُج عن إطار تصوّره العام للعمل النيابي ودور الأحزاب فيه، فهو يكرّس الترشّح الفردي للانتخابات، أي أن القوائم الحزبية ستغيب بالضرورة. وفي الوقت نفسه، فقد حرص القانون الجديد على التقليل من دور الأحزاب وحصر وجودها في البرلمان ضمن أدنى الحدود، والتي لن تتشكل ككتل برلمانية، وهو ما يفقدها عمليا جدوى الحضور والنشاط. ويتعلق العامل الثاني بالأحزاب ذاتها، فالقوى السياسية الأكثر تأثيرا وحضورا أعلنت بوضوح مقاطعة الانتخابات المقبلة، وهو ما يعني الابتعاد عن المشهد البرلماني، وتحوّلها إلى مجرّد نشاط سياسي عام من دون أهداف محدّدة، اللهم إلا القيام بدور المعارضة، أعني مواجهة النظام برمّته، من دون السعي إلى المشاركة فيه أو التعامل معه.

وبغض النظر عن الانتخابات التي بدأ الإعداد لها، فإن الأكيد أنها ستكون باهتةً وقليلة التأثير على الشارع، بسبب انفصالها عن مشكلاته الحقيقية، وهي أساسا مشكلاتٌ اجتماعيةٌ واقتصادية. وفي الوقت نفسه، لن تكون للانتخابات أي أهمية سياسية، فهي تُقصي الأحزاب والحساسيات الأيديولوجية، وتقتصر على أفرادٍ يفتقرون إلى الإشعاع والتأثير، وهو ما يفتح الباب أمام مزيدٍ من الغموض المتعلق بالمستقبل السياسي للبلاد.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.