ليبيا والمسارات المتعاكسة
لا تزال الحالة السياسية الليبية تراوح مكانها، بل تجرّها المؤثرات المحيطة بها إلى الوراء جرّاً، فالحالة الأمنية التي هي جزءٌ من أي اتفاقٍ سياسيٍّ قادم يمكن أن تكون في أسوأ أحوالها منذ فترة، فالتنافس الأمني والاستقطاب الداخلي والخارجي يغذّيان هذا الحالة التي مآلها في آخر المطاف عرقلة أي عملية سياسية قادمة تقود إلى تجديد الأجسام التشريعية والتنفيذية في البلاد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
لم تكن الأحداث الأمنية التي شهدتها العاصمة طرابلس أخيراً وليدة أيام أو حتى شهور، وإنما هي نتاج حالةٍ من التراكمات والصراعات السياسية قبل الأمنية عبر سنوات مختلفة، تباينت فيها الآراء واختلفت فيها التجاذبات والدوّامات السياسية قبل الأمنية، وبالتالي غابت مُقوّمات الدولة الحقيقة، وكان البديل لها هذه الاتفاقات السياسية التي تدور مع المصلحة وجوداً وعدماً، فضلاً عن الفاعل الخارجي الموجود بمؤثرات داخلية تغذّي هذا الاختلاف.
لا يمكن قراءة حدث أمني من دون النظر إلى الحالة السياسية التي أوجدته، باعتبار أن الوضع السياسي هو لُبّ قيام الدولة أو فشلها، فإذا تعذّر السير في نظام سياسي حقيقي كما هو الحال في ليبيا فلا غضاضة أن تكون مثل هذه الوقائع والأحداث. وبالتالي، الحاجة اليوم إلى نظام سياسي مؤسّسي قائم على أجسام شرعية تستمدّ شرعيتها من القاعدة الشعبية المنشئة لها بات من الضرورة الملحّة التي يجب أن ينظر إليها كل فصيل سياسي يسعى إلى إقامة الدولة في البلاد من كيانات وأحزاب سياسية، فضلاً عن النخبة الفاعلة والمؤثرة في المشهد السياسي التي يجب أن تتحمّل العبء الأكبر في الدفع نحو هذا الاتجاه، لسببين: أن الكيانات السياسية الداخلية باتت تتجاذبها المصالح الضيقة أكثر من أي وقت مضى، وأن الأجسام التي تدور عليها محاولة إيجاد واقعٍ سياسيٍّ جديد لا يمكن أن يعوّل عليها، وذلك لفشلها تكراراً ومراراً، وبالتالي، فإن النخب المجتمعية والتحرّك الشعبي هما الأداة الرئيسة، سواء في الضغط على هذه الأجسام الفاقدة للشرعية الحقيقة للتوجه نحو تجديدها، أو إيجاد واقع ومسار مغاير ينتهي كذلك بتجديد الشرعية التشريعية والتنفيذية.
غالبية الأجسام في ليبيا تسعى إلى أن تكون لها اليد الطولى في المشهد السياسي المقبل، بغضّ النظر عن أن تتحقّق فيه الشرعية الحقيقية
كما لا يمكن أن نعاود الكرّة مرّات ومرّات في انتظار أجسام لم تستطع أن تُقدّم أي تقدُّم يذكر بانتشال البلاد من هذه الفوضى والعقبات التي تمر بها، فمجلس النواب والدولة كلما تقاربا في شأن سياسي كان الاختلاف في أول منعطفٍ فيه، عبر سنواتٍ متتالية، لعلّ جديدها أخيراً القوانيين الانتخابية التي ما زالت تدور في دائرة مغلقة، وإن كان للجنة 6 + 6 التي كانت من كليهما، وأريد أن تكون قوانينها باتّة، إلا أن ذلك لم يكن، بل إن هذه القوانين ما زالت تدور بينهما في حلقةٍ مفرغةٍ من العودة إلى قضايا اختلافيه لم تر أي توافق بينهما. وبالتالي، من العبث انتظار أي توافقٍ حقيقي بينهما. ويقودُنا هذا الأمر إلى ماهية عمل البعثة الأممية للدعم في ليبيا التي ما زالت تتماهى في هذا الشأن، وإنْ لوّحت منذ شهور بأن ذلك لن يكون مفتوحاً للبرلمان والدولة في وضع قوانين انتخابية تتجدّد بها الشرعية، ولكن الواقع يقول عكس ذلك، ما زالت البعثة في موقف منتظر النتائج منهما. ويحدُث ذلك كله في غياب حراك مجتمعي حقيقي، يدفع نحو الضغط على الجميع، بما فيها البعثة الأممية للسير بالبلاد إلى مرحلةٍ دائمةٍ يكون الاستقرار هو عنوانها، والأجسام الشرعية الحقيقية لُبُّها وكيانها.
تمرّ البلاد بمساراتٍ متعاكسة، وإن كان الظاهر يوحي بأن هناك شيئاً من التوافق أو التقارب بين الأجسام والكيانات السياسية المختلفة المؤثرة في المشهد السياسي الداخلي، للعبور نحو مرحلةٍ جديدةٍ تستمدّ شرعيّتها من القاعدة الشعبية، إلا أن الحقيقة، وكذلك الواقع، على النقيض من ذلك، إذ إن الغالبية من كل هذه الأجسام تسعى إلى أن تكون لها اليد الطولى في المشهد السياسي الليبي المقبل، بغضّ النظر عن أن تتحقّق فيه الشرعية الحقيقية، أو شرعية الاتفاقات السياسية التي تسعى إلى أن تكون جزءاً منها!