لن نتجاوز ولن ننساهم
الآن... وقد عرفتُ المعنى الحقيقي الحارق للفقد، وعشتُ تجارب مختلفة في سياقه، خصوصاً في السنوات الأخيرة التي صرتُ فيها أتطلع إلى أحبابي كلّ يوم كمن يُحصيهم للمرّة الأخيرة، يمكنني التأكيد على أنّ الفقد من أصعب التجارب التي يمرّ بها المرء، إن لم يكن الأصعب على الإطلاق.
عندما نفقد شخصاً عزيزاً علينا، يشعر عديدون منا بمشاعر مختلفة من الصدمة والحزن والإحباط، والألم، والخوف. وقد يكون من الصعب على بعضهم التغلّب على هذه المشاعر القوية والمفاجئة في طبيعتها وتوقيتها. لكن الأصعب محاولة تجاوزها على المدى البعيد، إذ يُخاتلنا ذلك الشعور المقيت، ويغافلنا بين آونةٍ وأخرى، فيطلّ برأسه أحياناً في وقتٍ نظنّ أننا تجاوزناه. يمدّ لسانه ساخراً منا ليفرض أبديته في وجودنا؛ أنا هنا. وها هو وجه الفقيد ما زال ساكناً في أعماقكم، ولا يحتاج سوى لحظة خاطفة لاستعادته!
في البداية، يمكن أن يسيطر علينا الشعور بالدهشة وعدم القدرة على تصديق أن الشخص الذي نحبّه قد رحل عنا إلى الأبد، ومن ثم، يأتي شعور الحزن الذي يسيطر علينا ويستولي على كلّ مشاعرنا وأحاسيسنا فتراتٍ طويلة، حتى وإن تظاهر بعضنا بالقوة أمام نفسه أو أمام الأخرين.
ومما يضاعف إحساسنا بالحزن عدم قدرتنا على مواساة أنفسنا كما يليق بها وبالحزن نفسه، وهذا قد يؤدّي إلى الشعور بالوحدة والعزلة والانغلاق والاكتئاب والقلق والضعف الذي تترجمه أجسادنا أحيانا بهيئة أمراضٍ متنوّعة، قبل أن يتوارى ذلك كله تحت ركامٍ من شؤون الحياة المستمرّة، ما يجعلنا نصدّق حكاية التجاوز والتخطّي والنسيان! لكن هيهات.
كثيرون ممن لم يجرّبوا بعد الشعور بالفقد على الصعيد الشخصي الحميم، أو أنهم لم يفكّروا فيه تفكيراً ذاتياً بعيداً عن ترديد المقولات المعلبة والمستعارة من تجارب الآخرين المعلنة، يعتقدون أنّ الحزن يقلّ بمرور الأيام، وأنّ الزمن كفيلٌ بتلاشيه، لكنّ هذا غير صحيح، فالتجربة تقول إنّ الشعور بالفقد يتعاظم تدريجياً، حتى وإن تلاشت مظاهر التعبير عنه. ذلك أنه ينكمش من أطرافه الواسعة، ليتركّز في بؤرة الألم داخل النفس، ما يحوّله إلى جمرة حارقة دائمة الاشتعال. ومما يساعد على تركّزه على هذا النحو القاتل إننا نجد أنفسنا مطالَبين بالتجاوز بحجّة استمرار الحياة، باعتبار أنّ الحي أبقى من الميّت، وهي واحدة من المقولات المشبعة بأنانية الأحياء الذين يعتقدون أنّهم مخلّدون.
صحيح أنّ الحياة لا تتوقّف في محطّة الراحلين، وأنّها مستمرّة بنا أو بغيرنا، شئنا أم تردّدنا أم أبينا، لكنّ هذا لا يعني أنّنا ننساهم بمجرّد استئناف الرحلة، ولا يعني أنّها ستكون رحلة ممتعة من دونهم، مهما ابتسم لنا من يشاركوننا إياها أو لوّح لنا الواقفون على رصيفها. ولهذا من المهم جداً أن نعي ذلك وأن نعترف به، وألّا ننخدع بدعوات النسيان والتناسي الكاذبة حتماً، وأن نسمح لأنفسنا بممارسة الحزن والشعور بالفقد، وعدم الاكتفاء بالتظاهر بأنّنا قد تجاوزْنا المرحلة الصعبة لكسب إعجاب الآخرين بقوتنا المدّعاة. وأن نحتفي بذكرياتنا معهم ونستدرجها إن اعتقدنا أنّها غابت، فالذكريات وقود الحياة معهم حتى وقد رحلوا. وهي صورة من صور الشوق الذي يساعدنا، إن أحسنّا التعامل معه، على تجويد فكرة الحياة ذاتها، باعتبارها عبوراً آمناً نحو من نحبّ.
أما العزاء الحقيقي لأرواحنا التي تتهدّم تحت معاول الفقد، الإيمانُ بأنّه جزءٌ من الحياة نفسها، وأنّ مشاعرنا المؤلمة تجاهه يمكننا التعامل معها باعتبارها باقيةً حتى تنتهي رحلتنا الشخصية على هذه الحياة، وهذا سيساعدنا على التأقلم معه أكثر مما يساعدنا تجاهله والادّعاء بتخطّيه تحت أيّ ظرف.