لنوّاف سلام ما لغيره... أعطاب داخليّة وعالميّة
ليست السياسة نزعة شخصانية، ولا يمكن أن تقاس على هذا النحو إلا في مجتمعات متأخّرة وتنتج زعاماتية مستمرّة. ليست السياسة ولا العدالة مقارنة بين سياقين مختلفين، واعتبار أن ما يسري في سياق يسري، وبالضرورة، وبشكل أوتوماتيكي، في سياق آخر. من هذا المنطلق، يمكن النظر في موضوع تعيين نوّاف سلام رئيساً لمحكمة العدل الدولية. فعلى خلاف مجمل الأقلام والآراء التي اعتبرت تعيينه هناك خسارة للبنان هنا، يتموضع القول في خانة أن السياقيْن مختلفان إلى درجة لا يمكن معها مقايستهما بعضهما ببعض.
لربما يصح القول إن أمر هذا التعيين، بشكل من الأشكال، في حظ نوّاف سلام دون غيره. إذ لنفترض أن الرجل جرى تعيينه رئيسًا لحكومة لبنان بعد الانتفاضة، في دولة تسيطر الزعامات والمصارف عليها، ولنفترض أن الرجل وصل إلى سدة رئاسة الحكومة في دولةٍ تهيمن عليها مليشيا ليست كغيرها من المليشيات، ولنفترض أيضًا أن الرجل كان على رأس سلطةٍ تنفيذيةٍ في دولة يديرها مصنعٌ معطوب، فما الذي كان يمكن أن يقوم به؟ هذا هو السؤال المحوري للنظر في المسألة. لأن الأمور، خصوصاً في السياسة، لا يمكن أن تقاس على شخصٍ بمفرده في ظل هذه المتاهة المستمرّة والمتحكّمة بجميع المفاصل. لم يكن نوّاف سلام ليقوم بما يرغب القيام به، هذا طبعاً بعد افتراض أنه الرجل المناسب لمثل هذه المرحلة، وأنه يحمل مشروعاً إصلاحيّاً محكمًا. لم يكن لنوّاف سلام إلا أن ينعطب سياسيّاً في أجواء معطوبة، وأن يتماهى مع الخلل الكامن في جميع مفاصل الدولة، ليصبح خلله هو، ليصبح هو والانعطاب واحد هو من دون أي تمييز. فكيف يمكن أن تحكم دولةً يهيمن عليها حزب ما، بمليشياته وترسانته العكسرية، وله جهاز أمن خاص، وله علاقات تبعية اتكالية على دولة أخرى بالعتاد والمال والأسلحة وصولاً إلى القيادات الخفية؟ وله، فوق هذه وتلك، القدرة المستمرّة على التنصّل من كل شيء خاص بالدولة، علماً أنه يتمثّل في المجلس النيابي وفي الحكومة ويعيّن رئيساً للجمهورية كما يحلو له، ويعيّن رئيسيْن لمجلس الوزراء والنواب، ويضع الخطوط الحمر والخضر والكثير من العقبات أمام ما يزعجه أو أمام ما يوافق عليه؟ ويعلن الحرب ساعة يشاء، ويتراجع ويُحجم عنها ساعة يريد، كله في خدمة مصالح دولة أخرى؟ كيف يمكن إدارة بلدٍ كهذا؟ وبالتالي، هل يمكن القول إن نوّاف سلام، بمعزل عن شخصه، هو الرجل المناسب في المكان والسياق المناسبين، لو تم تكليفه برئاسة الحكومة، ولو سمحت له المليشيات تعيين طاقم على هواه؟
لبنان مصنع للمعيقات، النموذج الأكثر حيويةً عن الانهيار والتداعي
يمكن المسارعة إلى الإجابة عن الأمر بكثير من الثقة: لم يكن نوّاف سلام ليكون الرجل المناسب في الزمان، ولا في المكان. لم تكن له إمكانية التوصّل إلى أي نتيجة، إلا الانزلاق إلى مستوى الأزمة. وأخيراً، لم يكن لنوّاف سلام أن يحدِث أي فرق، علماً أن فرضية أن شخصاً واحداً يمكنه أن يُحدث فارقاً، إن كان قادراً ولديه المؤهلات لإحداث ذلك، ساقطة حكماً. وها هي تجربة المجلس النيابي الذي ضمّ، أخيراً، في صفوفه نواباً مشهوداً لهم، خير دليل وتعبير عن ذلك.
لربما وجب التفكير بالأمر من هذا المنطلق، التفكير في ما حقّقه الرجل لنفسه، وليس في ما لم يستطع تحقيقه للبلد، فلبنان معطوبٌ إلى أجل غير مسمّى، لبنان مصنع للمعيقات، وهو النموذج الأكثر حيويةً عن الانهيار والتداعي، إذ يضبطه نظام سياسي لا ينتج إلا أعطالاً والكثير من الشراهة والشرهين. فليسمح لنا بعضهم بقول ما يجب قوله، لم يكن لا لنوّاف سلام ولا للبنان القدرة على التعافي، بل الطامة الكبرى أنه لم يعد بالإمكان التفكير في لبنان من دون التفكير في الانهيار الحتمي. إذ كل ما يحدث على الأراضي اللبنانية وفي المحافل الدولية، وفي الصراعات الإقليمية السائدة اليوم، لا يبشّر إلا بهذا الأمر، لأن البلد والعالم معلّقان من مدّة غير قصيرة وإلى أجل غير مسمّى. والبلد معطوبٌ إلى درجة تحوّل معها إلى عطبٍ مستمرّ، ولا مكان فيه لأي إصلاح.
لربما آن أوان التفكير بأن النتيجة الطبيعية للبلد أن يستمرّ في الانهيار، بل الأسوأ من ذلك أن يصبح المشروع المجدي الوحيد في لبنان هو دفعُه إلى الانهيار، وخصوصاً أن لا إمكانية للتعافي ولا لتحويل البلد كما يشتهي ناسُه في أفضل تطلّعاتهم. بل أصبح الإقبال على الانهيار السبيل الوحيد للخروج منه. وهذا ليس تناقضاً في بلد متناقضٍ أساساً، بل هو حقيقته وطبيعته في شروطه الحالية، هو نتيجته الحتمية، قمّة منطق السخرية التي يمثلها حين يكون الانهيار هو علاجه الوحيد.
تم منذ أيام تعيين نوّاف سلام في منصبه الجديد، تولّى سُدّة إحدى أكبر صروح العدالة على مستوى الكوكب. ومع ذلك، لا نتوهّم بإمكانية إحداثه أي خرقٍ في علاقات دولية مأزومة وتعاني من الانسداد المستمرّ، لا بل في عالم يفتقد إلى المعنى، وإلى أيِّ نموجٍ من نماذج العدالة. وأطفال غزّة ونساؤها ورجالها خيرُ شاهدٍ على ذلك.