لماذا هنيّة؟ ولماذا في طهران؟
اغتيال إسماعيل هنية ضربة موجعة وخسارة من الحجم الثقيل، فالشهيد كان قائداً لمقاومة باسلة أدهشت العالم وجنّنت العدو الصهيوني. مع ذلك، لن تحسب العملية من بين "إنجازات" مجرم الحرب نتنياهو. وسيدرك الإسرائيليون في يومٍ أن هذا الاغتيال لم يكن في صالحهم، ومن بين أخطائهم الاستراتيجية الكبرى التي ستعجّل بتفكّك كيانهم المصطنع. لا نقول ذلك من باب المزايدة اللغوية، وإنما التحليل الموضوعي والاستقراء العلمي يقودان إلى هذه النتيجة.
لم يكتسب هذا الفلسطيني الثائر صفة الزعيم والقائد بشكل عشوائي. هناك صفات أخلاقية وعملية وسياسية توفّرت فيه، فجعلت منه شخصية استثنائية. وبناء عليه، اختاره رفاقه ليتقدّم الصفوف ويتحمّل قيادة حركة حماس، ثم التحدّث باسم جميع فصائل المقاومة. ويوصف في قواميس السياسة والثورات شخصية معتدلة. لم يعرف عنه غلوٌّ أو تطرّف. كان حريصاً على وحدة الحركة التي قادها بحكمة وذكاء. كما كان يتجنّب الاشتباك مع أي نظام عربي من دون أن يزكّي أحدها على البقية، إلا من دعم القضية الفلسطينية بشكل ملموسٍ وعملي. حتى طهران تعامل معها باستقلالية، ولم يقبل وصايتها على المقاومة بطريقةٍ تُفقدها استقلالية القرار والإرادة، فعملية طوفان الأقصى جرى التخطيط لها من دون إعلام الدوائر الإيرانية أو القريبة منها. والاعتدال في هذا السياق لا يعني التخلي عن ثوابت الحركة والمقاومة، إذ تمسّك بالكفاح المسلح أداة أساسية لإجبار العدو على احترام الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني. لهذا فوجئ الأميركان والإسرائيليون عندما قبلت "حماس" بالنسخة التي قدّمتها الحكومة الصهيونية أخيرا لإنجاز اتفاق، فأدركوا أنهم يتعاملون مع شخصيةٍ تجمع بين الذكاء وبعد النظر. لهذا السبب، قرّر نتنياهو التراجع عن المشروع، لأنه أراد أن يشوّه "حماس"، لا أن يتفق معها. ولو قبلت إسرائيل وحلفاؤها التفاوض مع إسماعيل هنيّة بجدّية للمسوا فيه الحكمة والرصانة والقدرة على التوصل إلى الحد الأدنى من النتائج، من دون التخلي عن الثوابت الوطنية.
لا يريد حكّام إسرائيل السلام، لذلك قرّروا اغتيال هنيّة. يرفضون التعامل مع الحكماء والمعتدلين. يفضلون تصفيتهم بدل الحوار معهم. هذا ما فعلوه من قبل مع منظمّة التحرير ويكرّرونه اليوم. يريدون أشخاصاً بلا أنياب، لكي يذلّوهم ويمنحوهم "صلاحيات" محدودة جداً للعب دور الكومبارس لا غير.
عندما خطّطوا للاغتيال، استبعدوا الدوحة مكاناً لارتكاب جريمتهم، حتى يتجنّبوا الوقوع في إشكال آخر مع الإدارة الأميركية التي ترى في قطر دولة قادرة على لعب دور حيوي في الوصول إلى تسوية. لهذا اختيرت طهران لتكون مسرحاً للجريمة، وبذلك يُضرب عصفوران بحجر واحد: التخلص من عدو صلب، وكشف الثغرات الأمنية وإثبات قدرة تل أبيب على اختراق الجهاز الدفاعي الإيراني، بوصولها إلى غرفة نوم إسماعيل هنيّة. ومن شأن هذا أن يهزّ مكانة إيران، ويزرع الشك بينها وبين حلفائها الفلسطينيين. ورغم أن احتمال تورّط طهران في مسرحية من هذا القبيل سيناريو مستبعد جداً، وهو ما افترضه بعضهم، إلا أن ما حصل يضع المسؤولين الإيرانيين في مأزق حاد، فهل بلغ عملاء إسرائيل هذه الدرجة من التنسيق والتحرّك في قلب عاصمتهم من دون التفطّن لشبكاتهم ومنعهم من الوصول إلى ضيوفهم. وهذا يعني قدرة هؤلاء على استهداف قادتهم في كل لحظة. إذا ما تأكّد ذلك، تصبح إيران دولة مخترقة حتى العظم وغير قادرة على الدفاع عن نفسها؟! هذا مجرّد احتمال في انتظار التعرّف على الكيفية التي ستردّ بها طهران على الاعتداء الإسرائيلي.
الحرب مرشّحة لكي تمتد في الزمن وفي الجغرافيا، فاغتيال أحد القادة الكبار لن يدفع المقاومة إلى الاستسلام.على العكس من ذلك، الدماء تولد الدماء. في المقابل، ستتحقق مكاسب سياسية جديدة لصالح الفلسطينيين، ولن يعرف الإسرائيليون الأمن والاستقرار ما دام الجرح الفلسطيني ينزف.