لماذا لا نصفق للسيسي؟
وقف أحدهم في مدرج كلية دار العلوم بجامعة القاهرة لإلقاء قصيدة، وفي ختام أحد المقاطع تعمّد أن ينهي بـ"قفلة" دراماتيكية، مع حركة مسرحية من يده، و"سكتة" في انتظار التصفيق. لم يصفق أحد، تغير وجه الواقف على المنصة، وارتعشت شفته السفلى، و"برطم" بكلمتين لم يفهمهما أحد، قبل أن ينفجر عبر الميكروفون، ويقول: لماذا لا تصفقون؟ سيطرت الدهشة لثوانٍ على الحضور، وسرت همهمات، وبدت "تبريقات"، وأفلتت ضحكات، قبل أن يتساءل صاحب الميكروفون مستنكراً: الشاعر يكتب من دمه وأعصابه وروحه، وأنتم لا تصفقون؟! مرّ على هذه الواقعة ما يقرب من عشرين عاماً، ولم ينسها أحد. ذهبت مثلاً، للتندّر والسخرية. تصوّر المسكين أن كتابة جمل فصيحة، موزونة، مقفاة، وإلقاءها بصوت زكي طليمات، يعني أن ثمّة قصيدة، وثمّة شعر، وثمّة فنّ، وثمّة اندهاش متوقع، وانبهار مستحق، وتصفيق لازم، لا يعني غيابه سوى جحود الجماهير!
اتصل عبد الفتاح السيسي، صاحب ميكروفونات مصر كلها، بالإعلامي عمرو أديب، المتحدّث غير الرسمي باسم النظام، وتحدّثا حول الجاري والحاصل والمطلوب. لا يتحدث السيسي بشكل عشوائي. السيسي لديه تقارير، وأجهزة ترفع الواقع، ولا تُزَوّره مثلما يفعل عمرو. اختفت لغة الثقة والعنجهية والغطرسة، و"من يقدر على الله يقدر علينا"، و"أنتم تحتاجون إلى من يخبركم بأنكم فقرا قوي"، و"أجيب منين؟". الآن، يتحدّث السيسي عن أن "الفلوس موجودة"، كلنا يعلم من أين جاءت، اللحم الحيّ لملايين المصريين، قروض وضرائب وإتاوات وغرامات وتعويم. السيسي يعترف بذلك، ويقول بالحرف: "لن نحرم الناس أكثر من ذلك"، "لن نلقي عليهم بحمولنا"، ما يحتاجه السيسي ويكرّره، على امتداد نصف ساعة، هو الصبر، "إلى مدى زمني طويل"، بتعبيره، والثقة المطلقة.. والتصفيق!
يُعدّد السيسي ما يعتبرها إنجازات ويسأل: "أنتوا مش مستغربين؟ أنتوا مش بتسألوا إحنا جبنا الفلوس دي منين؟". لا يصرخ مثل صاحبنا الدرعمي، لكنه يشاركه الحنق في أن أحداً لا يصفّق. استوفى السيسي "شكل" المنجز، اشتغل على الصورة، ثمّة طرق وكباري، ترونها، فلماذا لا تصفقون؟ يستدرك: المنجز ليس في الكباري وحدها، ولكن في التعليم والصحة والزراعة والصناعة، أين؟ لا ترونها، أنتم ترون الكباري فقط لأنكم تمشون عليها. ثمّة إنجازات خفية إذن، لن يراها إلا من ينتظر ويصبر ويقف ثابتاً صلباً متحمّلاً، إلى ما لا نهاية!
يسأله عمرو أديب عن المشكلات الخارجية، وأبرزها سد النهضة، لا إجابة سوى الصبر، الخارجية مثل الداخلية. الصبر هو الحل، الشعب هو الحل. يعترف السيسي، بوضوح، بأن حالة الغضب مستمرة، ثورة يناير مستمرة، مطالب الناس مستمرة، ويعزو ذلك إلى الاستعجال، ويلقي بالمسؤولية كلها على التاريخ. الدولة كانت غائبة، هكذا يقول. الدولة التي جاء السيسي لإنقاذها من الإخوان المسلمين، وجرى ترويجه بأنه من سيستعيدها، لم تكن موجودة أصلاً. لم يكن ثمّة شيء ليستعيده السيسي، وهو الآن يحل مشكلات العهود السابقة كلها! أخطأت الدولة بالغياب، وأخطأ الشعب بالحضور، لم تشتغل الدولة، فيما اشتغل الناس، وأنجبوا كثيراً، على الدولة الآن أن تشتغل، وعلى الناس أن يتعطّلوا، يتعطّلوا عن الإنجاب، وعن المساءلة، وعن الغضب، وعن حالة يناير التي لم تنتهِ.
خلاصة مداخلة السيسي هي خلاصة مداخلة الشاب الدرعمي الذي توهم بأنه شاعر، كما يتوهم السيسي الآن بأنه صاحب إنجازات. أنا أكتب فلماذا لا تصفقون؟ باختصار، لأنك لم تكتب، لم تنجز، فقر، وكساد، وطائفية، وانقسام اجتماعي عميق، وغياب كامل للحريات، آلاف من سجناء الرأي، حريتهم قرار لا تريد اتخاذه. حول هؤلاء ملايين، من الآباء والأمهات والأُسر، لن يصفقوا للكباري، وأبناؤهم في الزنازين. لن تحرر الكباري معتقلاً، لن تطعم جائعاً، لن تعالج مريض كورونا لا يجد سريراً أو جهاز تنفس. الإنجازات شيء آخر، ولذلك "يناير" مستمرة، كما أخبرك رجالك في الأجهزة. أما الصبر، فهو مثل التصفيق، يحتاج أن تفعل شيئاً "حقيقياً" كي تحصل عليه.