لماذا غيّرت القوى الغربية مواقفها من إجراءات سعيّد؟
منذ أعلن الرئيس التونسي، قيس سعيّد، الإجراءات المتعلقة بالمرحلة المقبلة، وتحديداً روزنامة الانتخابات التي يعتزم إجراءها في ما يتعلق بالدستور، وجملة القرارات الأخرى، على غرار مواصلة العمل بتعليق البرلمان، والذهاب إلى سنّ دستور جديد، فضلاً عن جملة القرارات الأخرى، التي تذهب ضمنياً في تكريسه منظوره الشعبوي، ناسفاً بذلك ما راكمته الديمقراطية البرلمانية، مستغلاً، في الآن ذاته، ضعف أداء النخب التي تعاقبت على حكم البلاد، على امتداد ما يفوق العشرية، منذ أعلن سعيّد ما أعلن، تتالت المواقف الأجنبية تجاه ما ذهب إليه. فقد عبّر الاتحاد الأوروبي والخارجية الأميركية، وحتى تركيا التي يعدّها بعضهم حليفاً للإسلاميين، عن ارتياحها لهذه الإجراءات، بل تضيف جلّها أملها في أن تكون هذه الإجراءات فرصة ثمينة لتحقيق مطالب الشعب التونسي، المتعلقة بالرخاء الاقتصادي ومقاومة الفساد، إلخ.
مع ذلك، علينا أن نعود إلى الوراء، أي إلى ما يزيد على خمسة أشهر، لنفهم تطورات الموقف الأوروبي أو غيره وخلفيات ذلك. لم تصدُر عن الاتحاد الأوروبي مواقف ترفض ما قام به الرئيس سعيّد، كذلك تجنب استعمال مفردة الانقلاب، بل كان يحرص، في كل مرّة، على استعمال لفظ الإجراءات وما يرادفه، في لغة على غايةٍ من اللطف الدبلوماسي. بل لعلّه كان أقرب إلى تفهم ما حدث، خصوصاً مع تذكيره بالحيثيات التي دفعت سعيّد إلى اتخاذ تلك القرارات، من خلال التركيز على حق الشعب التونسي في حياةٍ أفضل، خصوصاً على المستوى الاقتصادي. وفي زيارات عدة وفودٍ متكررة منه، كان الاتحاد الأوروبي يحرص على احترام السيادة الوطنية للبلاد. ربما الاستثناء الوحيد الذي شذّ عن هذه القواعد، موقف وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، الذي دعا قيس سعيّد الى تسقيف (وضع سقوف زمنية) الإجراءات والعودة إلى "حياة برلمانية"، لكنّه سرعان ما لاذ بالصمت. كذلك، لم يُشر الاتحاد الأوروبي (المفوضية الأوروبية...) مطلقاً إلى البرلمان، وكأنّه ضمنياً راضٍ على تعليقه. لقد ظلّ الموقف الأوروبي حمّال أوجه، لكنّه لم يُدن الانقلاب، ولم يتخذ أيّ إجراءاتٍ زجريةٍ على المستوى الاقتصادي أو السياسي. وربما كانت كندا، من خارج الاتحاد الأوروبي طبعاً، الاستثناء الوحيد الذي برزت مواقفه، من خلال الحرص على تأجيل القمة الفرنكفونية... مع ذلك، علينا أن نفهم الخيط الناظم الذي صاغ خلفية هذه المواقف، سواء الصادرة عن الاتحاد الأوروبي أو بقية القوى الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة.
تنازلت القوى الغربية عن الديمقراطية مقابل الاستقرار، وذهبت إلى غضّ الطرف أحياناً عن تجاوزاتٍ عديدة مقابل من يضمن لها الاستقرار
بعيداً عن اختزال خلفية المواقف في عامل المصلحة التي تظل دوماً حاضرة في صياغة مثل هذه المواقف، لا تستطيع القوى الغربية أن تكون أكثر راديكالية وتجذّراً من المعارضة التونسية ذاتها، إذ ظلت المواقف الداخلية متردّدة، والشارع السياسي منقسماً، بل فوجئت هذه القوى الأجنبية بالشعبية التي حظيت بها هذه الإجراءات، خصوصاً في الشهر الأول الذي تلا الانقلاب على الدستور. لا يمكن هذه القوى أن تغفل هذه الحقيقة، خصوصاً في ظلّ ما وفرته بعض القوى السياسية من شرعية له: التيار الديمقراطي، حركة الشعب، التيار الشعبي، حزب البعث، حركة تونس إلى الأمام، وأحزاب يسارية أخرى. صحيح أنّ العديد منها لا يمتلك قواعد حزبية يعتدّ بها، لكنّها وفرت للانقلاب هتافاً سياسياً يرسّخ فكرة التأييد. كانت شعبية سعيّد آنذاك عاملاً حاسماً في تردّد تلك القوى، وهو تردّد غذّته حالة التشتت السياسي ووهن المعارضة، بل تأييد طيف منها هذا الانقلاب ذاته.
علينا أن نستعيد بعض أبجديات سياسية حكمت موقف القوى الأجنبية مما حدث في تونس خلال العشرية المنصرمة، فقد تنازلت هذه القوى عن الديمقراطية مقابل الاستقرار، وذهبت إلى غضّ الطرف أحياناً عن تجاوزاتٍ عديدة مقابل من يضمن لها الاستقرار، أي القوة السياسة القادرة على بسط هيمنتها، حتى لا تذهب البلاد إلى الفوضى، وهي التي يتربّص بها الإرهاب من كلّ جانب.
تدرك القوى الغربية أن الدولة ضعفت، سواء كأجهزة أو كفكرة، وهي تأمل مع سعيّد أن تستعيد الدولة هيبتها وقوتها
لا ترى تلك القوى حالياً بديلاً لقيس سعيّد، وهي تدرك تماماً أنّ حركة النهضة تحلّلت، وهي تعاني تفككاً داخلياً، فضلاً عن شيطنتها المستمرة، التي أفقدتها كثيراً من المقبولية. لم يعد الشارع السياسي يثق بها، وهي قادمة، حسب تقديرها، إلى أزماتٍ عميقةٍ في غضون السنوات القليلة المقبلة. والحال أنّ تلك القوى تبحث عن حليفٍ يرافقها في مدى متوسط وحتى طويل. تدرك تلك القوى أن الدولة ضعفت، سواء كأجهزة أو كفكرة، وهي تأمل مع سعيّد أن تستعيد الدولة هيبتها وقوتها، خصوصاً في ظل ما يحدث في دول الجوار، تحديداً ليبيا. تحتاج تلك القوى موطئ قدم ثابتاً لا يتزحزح، حتى تقدر على معالجة الملف الليبي بكلّ تعقيداته، وإنْ على حساب الديمقراطية التونسية.
لذلك كله، لم تذهب تلك القوى بعيداً في مناهضة الانقلاب في تونس. بل ظلت تبحث عن تليينه، وجعله ناعماً بما يكفي، خشية التناقض الصارخ، خصوصاً أنّه يريحها من الإسلام السياسي الذي وهن ولم يعد شريكاً يعوّل عليه. وسيحرّر هذا الموقف مناهضي الانقلاب من تهم عديدة كانت تلاحقهم، لعلّ أهمها الاستقواء بالأجنبي، بل ذهب الرئيس إلى حد اتهامهم بالخيانة والعمالة .. الآن، سيتحرّر هؤلاء، وهم يستحضرون المثل العربي "ما حكّ جلدك إلّا ظفرك".