لماذا تشوّشت عملية المصالحة الفلسطينية؟
بعد موجة من التفاؤل الفلسطيني، إثر الحوار الثنائي بين حركتي فتح وحماس في إسطنبول منتصف سبتمبر/ أيلول الماضي، والتوصل إلى ما تشبه خريطة الطريق لإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، تشوشت العملية برمتها في الأسبوع الأخير من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، مع تصريحاتٍ لقياديين من "فتح" ومنظمة التحرير عن عدم وفاء "حماس" بالتزاماتها، وعن طرحها شروطا ومطالب جديدة، كما قال عضو اللجنة المركزية لفتح، عزام الأحمد، وحتى عن عدم تقبل بعض قادتها في غزة للمصالحة، كما قال حرفياً عضو المركزية أيضاً، روحي فتوح، والذي شارك في حوار إسطنبول.
تحولت المصالحة بين الحركتين إلى عملية خلال العقدين الماضيين، تماما كعملية السلام المستمرة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل ثلاثة عقود، وتناسبت عكسياً معها طوال الوقت، بمعنى أنها تقدمت مع انتكاس العملية الأخرى، والعكس صحيح. والتقدّم الذي شهدته المصالحة أخيرا كان ناتجاً أصلاً عن موت التسوية، إثر إعلان صفقة القرن الأميركية التي مثّلت انقلاباً على أسس العملية وجوهرها، كما شهدناها خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ثم التطبيع - التحالف الإماراتي الإسرائيلي الذي استند إلى الصفقة سيئة الصيت، ووجّه ضربة قاصمة لحل الدولتين والقرارات الدولية والمبادرة العربية للسلام.
تقدّم المصالحة أخيرا كان ناتجاً أصلاً عن موت التسوية، إثر إعلان صفقة القرن الأميركية التي مثّلت انقلاباً على أسس العملية وجوهرها
بناءً على المعطيات السابقة، حصل تقارب ثنائي ومباشر ومن دون وسيط بين "فتح" و"حماس"، وجرت حوارات بعيدة عن الأضواء، تحديداً بين نائب رئيس المكتب السياسي لـ"حماس"، صالح العاروري، وأمين سرّ اللجنة المركزية لـ"فتح"، جبريل الرجوب، أثمرت مؤتمرا صحافيا مشتركا لهما بين رام الله وبيروت أوائل يوليو/ تموز، ثم لقاء الأمناء العامين للفصائل بالآلية نفسها بعد شهرين تقريباً الذي عزّز الإجماع الفلسطيني على رفض الصفقة والتطبيع التحالف، مدفوعا بالإحساس بالمخاطر الجدّية، وربما المصيرية، على القضية الفلسطينية. والأهم طبعاً كان حوار إسطنبول الثنائي بين حركتي فتح وحماس منتصف سبتمبر/ أيلول الذي بدا بمثابة نقلة أو نقطة مفصلية في عملية المصالحة التي باتت فلسطينية تماماً، وخرج الحوار بتفاهماتٍ نصّت على إجراء الحزمة الانتخابية الكاملة التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني بشكل متتابع، لا متزامن، ولكن ضمن سقف زمني محدد بستة أشهر وفق النظام النسبي الكامل، على أن تنطلق حوارات ثنائية وجماعية موازية حول ملفات ونقاط الخلافات الأخرى المتعلقة بحكومة الوحدة الوطنية ومهامها ومنظمة التحرير وإعادة بنائها، والمجلس الوطني واختيار أعضائه بالانتخاب حيثما أمكن، أو بالتعيين، مع اعتبار الانتخابات التشريعية بمثابة الخطوة الأولى والتمهيدية لانتخابات الوطني.
كان يفترض أن يعقد لقاء الأمناء العامين للفصائل مرة أخرى أوائل أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، للتصديق على نتائج حوارات إسطنبول، ومن ثم إصدار الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، مرسوما رئاسيا يحدّد الجدول الزمني للحزمة الانتخابية الكاملة، كما التفاهم على تشكيل اللجان الوطنية، من أجل وضع حلول تجاه الملفات الأخرى العالقة، وهنا تحديداً بدا التعثّر أو الجمود النسبي في العملية.
المشكلة الحقيقية والجدية داخل فتح والسلطة في رام الله، وبدرجة أقل داخل "حماس" أيضاً
صدرت احتجاجات عن بعض الفصائل، تركّزت على الطابع الثنائي للحوار، وإجراء انتخابات من دون الشروع الجدّي في إنهاء الانقسام. وعلى الرغم من الصوت العالي للاحتجاجات، إلا أنها بدت هامشية وشكلية (جزء منها كان رفضاً للحوار في إسطنبول، وإن لم يتم التعبير عن ذلك علناً)، خصوصا مع تأكيد حركتي حماس وفتح على عرض التفاهمات الثنائية الواقعية بحد ذاتها على لقاء موسع للمصادقة عليها أو تعديلها، تمهيداً لإصدار المرسوم الرئاسي مع المضي في الحوارات الثنائية والجماعية بشأن النقاط العالقة.
مكان لقاء الأمناء للفصائل مثل مشكلة أيضاً، حيث رفضت القاهرة استضافة اللقاء الموسع احتجاحاً على الحوار في إسطنبول، كما على فكرة الاستضافة بحد ذاتها فقط، من دون الرعاية أو الوساطة الفعلية التي باتت من الماضي على أي حال، علماً أن نظام عبد الفتاح السيسي متحفظ على نجاح عملية المصالحة بعيداً عنه، وحتى على العملية بشكلها الجديد التي تمنع التأثيرات الخارجية على القضية الفلسطينية، وتؤكّد مكانة "حماس" المركزية وشراكتها في قيادة منظمة التحرير واقتراب الفلسطينيين الطبيعي من المحور العربي الإسلامي الداعم لهم، بعيداً عن محور صفقة القرن والتطبيع - التحالف مع إسرائيل. مع ذلك طرحت عدة حلول لمشكلة المكان الذي لا يمثل عقدة بحد ذاته، كونه يتلخص باستضافة اللقاء الفصائلي فقط من دون رعاية أو وساطة، حيث استعدت الجزائر لذلك، كما أعلن السفير الفلسطيني لديها أمين مقبول، وأعلنت روسيا أيضاً استعدادها لاستضافة اللقاء، حسب تصريح لعضو المكتب السياسي لـ"حماس"، موسى أبو مرزوق، بعد زيارته موسكو أخيرا.
انتخاب بايدن رئيسا للولايات المتحدة لن يزيل المخاطر المصيرية المطروحة، حيث ستستمر عملية التطبيع - التحالف بين العرب وإسرائيل، وستبقى السفارة الأميركية في القدس
بناء على ما سبق، أمكن الاستنتاج أن المشكلة الحقيقية والجدية ليست في العوامل السابقة، على أهميتها طبعاً، وإنما داخل فتح والسلطة في رام الله، وبدرجة أقل داخل "حماس" أيضاً. ويعتقد الكاتب هنا أن الرئيس عباس يناور، وهو لا يسعى إلى الانتخابات ولا المصالحة أصلاً، وإنما إلى تكريس شرعيته، والاصطفاف الفصائلي معه، أو خلفه كما يقول، في مواجهة الصفقة والتطبيع – التحالف، وإفشال محاولات إماراتية إسرائيلية - مدعومة أميركياً ومصرياً وسعودياً، لاستبداله بمحمد دحلان. كما أنه ينتظر نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية الأسبوع المقبل مع وجود احتمال قوي لفوز المرشح الديمقراطي، جو بايدن، الذي سينأى بنفسه عن صفقة دونالد ترامب، ويقرّ بشرعية القيادة الفلسطينية الحالية، ويعيد العلاقات السياسية والاقتصادية معه بدون تدخل جدّي منه لطرح مبادرات وخطط لحل الصراع. والشاهد هنا أن سؤال الشرعية لن يكون مطروحاً، وبالتالي لن يكون الرئيس عباس بحاجة لحركة حماس وبقية الفصائل للاصطفاف معه أو خلفه. كما أن ثمّة جهات داخل حركة فتح لا تريد نجاح المصالحة أيضاً، لأسباب ومصالح سياسية وشخصية، كما الحال مثلاً مع مدير المخابرات، ماجد فرج، وعضو اللجنة المركزية، عزام الأحمد، كونه يصب شخصياً وسياسياً لصالح خصمهم جبريل الرجوب، ويزيد فرصه في خلافة الرئيس محمود عباس. إلى ذلك، المصالحة تعني بالضرورة تقديم تنازلات من "فتح" والسلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة على حد سواء، بعيداً عن فكرة التمكين وذهنيته، وهو ما يرفضه الاثنان.
عباس يناور، ولا يسعى إلى الانتخابات ولا المصالحة أصلاً، وإنما إلى تكريس شرعيته، والاصطفاف الفصائلي معه
هناك تباينات وخلافات داخل "حماس" أيضاً نتيجة حالة عدم الثقة بالرئيس محمود عباس بعد التجارب السابقة، وشعور بعضهم في المكتب السياسي للحركة بأنه يستغلها لتكريس شرعيته وزعامته، كما حصل قبل ذلك، من دون امتلاكه نية صادقة جدية نحو إنهاء الانقسام، ولا حتى الانتخابات نفسها. وثمّة أطراف حمساوية تطرح أسئلة أيضاً عن الخلافات العالقة بين الحركتين، بمن فيها الموظفون والوزارات والأجهزة الأمنية، كما غياب الضمانات المتعلقة بالانتخابات ونتائجها.
عموماً، ما زالت الأجواء العامة إيجابية داخل الحركتين، حتى مع تباطؤ العملية، كما أقرّ القيادي الفتحاوي، عبد الله عبد الله. وثمّة شعور بإمكان تجاوز العقبات السابقة، ولو بشكل متتابع لا متزامن، وحتى انتخاب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة لن يزيل المخاطر المصيرية المطروحة، حيث ستستمر عملية التطبيع - التحالف بين العرب وإسرائيل، وستبقى السفارة الأميركية في القدس، وسيتواصل الانكفاء الأميركي عن المنطقة شرقاً نحو آسيا والصين، ما يعني بقاء الفلسطينيين وحدهم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه الجدد، وسيكونون مضطرين للتفاهم والتصالح والوحدة حفاظاً على بقاء القضية الفلسطينية، ومنع تصفيتها أو شطبها، ناهيك عن الاقتناع التام طبعاً بأن الحل العادل الشامل والمستدام بعيد وغير متاح، ولا يبدو في الأفق أصلاً.