للشرعية الفلسطينية ثمن

25 يناير 2024
+ الخط -

منذ وقوعها تحت الاحتلال البريطاني، بعد الحرب العالمية الأولى، لم تلق قضية فلسطين أي اهتمام يستحق الذكر. لا من دول العالم ولا من شعوبه. بل كان الصمت المخزي أكثر حضورا، في مواجهة وعد وزير الخارجية البريطاني، بلفور، سنة 1917، "بتأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين". كما لم تثمر شيئا التظاهرات السلمية التي قادها الحاج أمين الحسيني ضد الاحتلال البريطاني، وهجرة اليهود الى فلسطين. لكن الثورة المسلحة، التي قادها الشيخ عزّ الدين القسام ضد الوجود اليهودي والانتداب البريطاني عام 1935 غيّرت الوضع، حيث لفتت هذه الثورة المسلحة، واستشهاد قائدها، كثيرا من دول العالم الحر وشعوبه، وخصوصا الشعب العربي، وأحزابه وقواه الوطنية كافة.

وضعت ثورة القسّام المسلّحة، وما أعقبها من عمليات عسكرية واستشهادية، حجر الأساس لمقاومة طويلة الأمد. ودفعت الشعب الفلسطيني إلى الالتفاف حولها. حيث وجد فيها الطريق المؤدّي إلى تحرير فلسطين من رجس الاحتلال البريطاني. شأنه شان الشعوب التي سلكت هذا الطريق، وحرّرت نفسها من رجس الاحتلال، فالمحتلّ، مهما تعدّدت أشكاله واختلفت جنسياته، لن يترك غنيمته طواعية، أو سلميا أو بالتفاوض معه، خصوصا وأن الكيان الصهيوني لفلسطين احتلال استيطاني، يستولي على الأرض ويقتلع سكّانها بالإبادة الجماعية، أو التهجير القسري، ويحوّل البلاد التي يستعمرها إلى أرضٍ مفرغة من شعبها، ليمارس السيطرة المطلقة عليها، من خلال المستوطنين، بدعم غير مسبوق من أكبر الدول الاستعمارية وأشدّها توحشا واستعداداً للقتال، من أجل حماية الكيان الصهيوني، فهو يمثل القاعدة العسكرية والسياسية لتحقيق أهدافها العدوانية، خصوصا في الشرق الأوسط، وتحديدا الدول العربية، التي تعوم على بحورٍ من النفط والغاز والثروات المعدنية والمياه والبحار وطرق المواصلات والقائمة طويلة. وفي ضوء ما تقدّم، يأتي حرص الدول الاستعمارية المتوحشة على هذا الكيان الصهيوني المسخ، بمفهومه الاحتلالي الاستيطاني الدائم، فهو بمثابة أضخم حاملة طائرات لها في قلب منطقة الشرق الأوسط، كما يرى بعض المفكرين. وعدم وجوده يرفع من تكلفة استراتيجياتها في المنطقة عشرة أضعاف ما تنفقه على هذا الكيان سنوياً. لذا باتت مفهومة العوامل التي تجعل الاحتلال الصهيوني على خلاف الاحتلالات الأخرى، التي تنسحب أحيانا بعد تنفيذ مهماتها، أو تحقيق أهدافها أو سرقة ثروات الشعوب..

الاحتلال الإسرائيلي بمثابة أضخم حاملة طائرات للدول الاستعمارية في قلب منطقة الشرق الأوسط

وفق هذه المفاهيم، لم يستسلم الشعب الفلسطيني، ولم يتنازل عن سلاحه، منذ 1917، وقد أثبت إنه شعبٌ مقاتل أو شعبُ الجبّارين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المقاومة المسلحة لا تسير في وتيرة واحدة، فعلى سبيل المثال، تراجعت المقاومة المسلحة في مرحلةٍ معيّنة، كما حدث بعد قرار تقسيم فلسطين سنة 1947، وهزيمة الحكّام العرب أمام العصابات الصهيونية سنة 1948. وكذلك في فتراتٍ لاحقة، لكنها سرعان ما تعود كالزلزال. وهذه صفةٌ تجمع كل حركة مقاومة ضد المحتل، فمرّةً تأخذ موقع الهجوم ومرّة تنتقل إلى الدفاع ومرّة تنسحب، وفي جميع الظروف، لم تلجا إلى المساومات الرخيصة أو الاتفاقيات المذلة. وليس أدل على ذلك من عودة المقاومة الفلسطينية المسلحة، في أول فرصة سنحت لها، حيث أسّس الشعب الفلسطيني منظمّة التحرير، في مؤتمر القمّة العربي الأول، في القاهرة بتاريخ 13/1/1964، استجابة لدعوة الرئيس جمال عبد الناصر، لمواجهة مشروع الكيان الصهيوني، لتحويل مجرى نهر الأردن. وقد مثل تشكيل منظمة التحرير، تطورا مهمّا باستلام الراحل ياسر عرفات قيادتها. حيث اتخذت قرارا بتفعيل البندقية لتحرير فلسطين. وكانت أول الحروب التي خاضتها ضد الكيان الصهيوني معركة الكرامة المشرّفة عام 1968، بدعم من الجيش الأردني، وألحقت هزيمة نكراء، بطائرات المحتل ودبّاباته ومدافعه وألوية مشاته خلال 15 ساعة. الأمر الذي عزّز الثقة بجدوى الكفاح المسلح، إلى درجة رفضت فيها منظمة التحرير، كل الحلول السلمية، التي توالت بعد نكسة حزيران 1967. ومن ضمنها قرارا مجلس الأمن 424 و338، اللذان يقضيان بانسحاب الكيان الصهيوني من الأراضي التي احتلّها بعد النكسة مقابل الاعتراف به.

لقد نالت المقاومة المسلحة الدعم اللامحدود من الشعب الفلسطيني. وانضوت تحت لواء البندقية جميع الأحزاب والمنظمّات السياسية الوطنية والاجتماعية، وكل الفصائل المسلحة والمجموعات الفدائية، فاستحقّت تسمية المنظمة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وتبوأ ياسر عرفات مكانة مرموقة بين رؤساء الدول العربية وملوكها، وكبار رؤساء الدول، ليصل إلى منصّة الأمم المتحدة، ويخاطب أعضاءها باسم الشعب الفلسطيني، مؤكّدا على مشروعية الكفاح المسلح لتحرير فلسطين. واستقبل خطابه أعضاء المنظمة بالإعجاب والتصفيق، بعدها بأيام، وتحديدا في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1974، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3236، اعترفت بموجبه "بحق الشعب الفلسطيني، في تقرير المصير والاستقلال الوطني والسيادة في فلسطين". كما اعترف القرار بمنظمّة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، ومنحها مقعد مراقب في الأمم المتحدة. الامر الذي أجبر الحكام العرب على الإقرار بالمنظمة ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، في مؤتمر القمّة العربية في الرباط يوم 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 1974، لتصبح للمقاومة قواعد مسلحة في الأردن ولبنان وسورية. وقد سطّرت المقاومة الفلسطينية المسلحة، بقيادة منظمة التحرير، ملاحم بطولية ضد الكيان الصهيوني، لكن حكّام الردة العرب أصابهم الرعب من توجّه المنظمّة الى السلاح لتحرير الأرض. فكرّروا فعلتهم المشينة عام 1948، فتواطأوا مع الكيان الصهيوني ضد المنظمّة، وألحقوا بها هزائم مؤلمة. بدأت بإخراجها من الأردن 1970، ثم من لبنان 1982 وانتهت زعاماتها ضيوفا على الحكومة التونسية.

ألا يحقّ لغزّة اليوم، بمقاتليها ومقاومتها وشهدائها وتضحياتها، أن تكون الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، بعد أن أوفت بكامل استحقاقات هذا التمثيل؟

هذه المؤامرة الكبرى، التي حاكها التحالف الأميركي الصهيوني مع حكام الردّة ضد المقاومة الفلسطينية، لم تتعرّض لمثلها أية حركة تحرّر في العالم، ولا مقاومة ضد محتل. فبالإضافة إلى الهزائم، انقلب القائد الثائر ياسر عرفات على عقبيه، وتحوّل الى عراب التسويات السلمية مع المحتل، وقاد منظمة التحرير الى عقد اتفاقيات مذلة مع الكيان الصهيوني، فرّطت بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، فاقت مذلة الاتفاقات، التي عقدتها مصر والأردن ودول عربية. وكان النموذج الأسوأ لهذه الاتفاقيات وأشدّها ضرّرا اتفاق أوسلو مع الكيان الصهيوني، سنة 1993. حيث تضمّن اعتراف المنظمة، اعترافا كاملا بهذا الكيان، وبسيادته على 78% من أرض فلسطين التاريخية، مقابل إقامة سلطة فلسطينية منزوعة السلاح، على المساحة المتبقّية من أرض فلسطين، في مدّة أقصاها سنة 1999. وبدلا من التزام الكيان الصهيوني بتنفيذ هذا الاتفاق في موعده المحدد عام 1999، واصل حكامه سياساتهم العدوانية ضد السلطة الفلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزّة. ومنها بناء مزيد من المستوطنات المسلحة، على حساب الأراضي الفلسطينية، المشمولة بتلك الاتفاقية المشؤومة.

ارتكبت منظمة التحرير، وياسر عرفات بالذات، خطأ استراتيجيا قاتلا احتاج الى ثلاثة عقود لتخطّيه. حيث حدثت خلالها خلافات حادة داخل حركة فتح، وبين الحركة والفصائل الأخرى. فعلى سبيل المثال، شكّل في نهاية عام 1974 صبري البنا (أبو نضال)، حركة تحت اسم حركة فتح المجلس الثوري. وفي سنة 1980 استقل عبد الكريم حمدي، بتنظيم مستقل سمّاه فتح مسيرة التصحيح. وفي سنة 1983، قامت مجموعة من القياديين البارزين في فتح، بزعامة نائب قائد قوات العاصفة، نمر صالح والعقيدين أبو موسى وأبو خالد العملة، بتأسيس تنظيم، سمّي "فتح الانتفاضة" شقّ "فتح" إلى نصفين. وأدّى هذا إلى عدة معارك بين فتح والمنشقين في البقاع وطرابلس وبيروت، لتنتهي إلى تشكيل جبهة رفض ضد منظمة التحرير وياسر عرفات.

ولكن شعب الجبارين رفض، في نهاية المطاف، الاستكانة واستجداء الحقوق من محتل غاصب. حيث خرجت من رحم الهزيمة مقاومةٌ أشد قوة وأكثر فاعلية، اتّخذت من قطاع غزّة قاعدة انطلاق لها، بصرف النظر عن التوجّه الإسلامي لغالبية فصائل المقاومة في غزّة، فالإسلام السياسي مثل في مراحل عديدة العمود الفقري لمقاومة المحتلين. فعلى سبيل المثال، لعب رجال الدين في ثورة العشرين المجيدة ضد المحتل البريطاني دورا بارزا إلى جانب العشائر وتجار المدن. وكذلك ثورة المهدي في السودان، وخير الدين باشا في تونس، وعبد القادر الجزائري وابن باديس في الجزائر، وعزّ الدين القسام في فلسطين، وعمر المختار في ليبيا، وقد خاض هؤلاء الكفاح المسلح في بلدانهم تحت شعارات الجهاد. لكن جهادهم، في الوقت نفسه، مثّل كفاحاً وطنياً ضد الاستعمار. وإذا كان السبب في تلك الفترة غياب الأحزاب والمنظمّات السياسية والعلمانية واليسارية، فإن ما يحدُث اليوم مشابه لما حدث بالأمس، فقد تغيب معظم الأحزاب والقوى الوطنية عن ساحات الكفاح، بل ارتضى بعضها التعاون مع المحتل، وأصبح العهر السياسي والخيانة بالمفرد والجملة، وجهة نظر ومسألة خاضعة للنقاش. ليس هذا دفاعا عن الإسلام السياسي، لا في غزّة ولا في غيرها، فكاتب هذه السطور ذو توجه قومي يساري، وانما هو إقرار بالواقع. ثم هل بإمكان أي وطني يقاتل المحتل، وفي الوقت نفسه، يرفض عملية طوفان الأقصى البطولية، التي أصبحت حديث العالم، ونالت احترام شعوبه، لتخرُج الملايين في بقاع الأرض، تأييدا للشعب الفلسطيني، في سابقة تاريخية لا شبيه لها إطلاقا، أعادت ملف القضية الفلسطينية إلى الصدارة، بعد أن طواها النسيان، أو كادت تدخل في خانة الذكريات الوطنية؟

رفض شعب الجبارين، في نهاية المطاف، الاستكانة واستجداء الحقوق من محتل غاصب، حيث خرجت من رحم الهزيمة مقاومةٌ أشد قوة وأكثر فاعلية

أما على أرض الواقع، وفيما يخصّ المقاومة المسلحة في غزّة، صاحبة القرار الأول والأخير، فان شعب فلسطين عموما يقف خلفها ويشكّل حاضنتها الاصيلة. ومن يدّعي أن شعب فلسطين في الضفة الغربية رفض عملية طوفان الأقصى، فهذا ادّعاء تكذّبه التظاهرات في الضفة، والتي استشهد فيها مئات الفلسطينيين، واعتقل آلاف من ابنائها، عبر اقتحامات متواصلة لقوات الاحتلال لمخيّمات عديدة، وتدمير همجي للمدن، مثل طولكرم وجنين ونابلس وبيت لحم وغيرها الكثير.

الكيان الصهيوني، بكل قدراته العسكرية، ونزعته العدوانية التدميرية، فشل ويفشل في عزل المقاومة عن حاضنتها الأصيلة، المتمثلة بالشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. بل ان فلسطينيي 48، الذين تحت سلطة الاحتلال، ويحملون الجنسية الإسرائيلية، يقفون اليوم خلف المقاومة، في غياب كامل للسلطة الفلسطينية المعزولة والمُدانة، الأمر الذي اضطر رئيسها محمود عباس، الى التراجع عن تصريحاته المسيئة، ليدين الإبادة الجماعية في غزّة، ويطالب بوقف الحرب فورا. تُرى هل ما زالت السلطة الفلسطينية، برئاسة محمود عبّاس المعزولة عن شعبها، هم الممثلون الشرعيون للشعب الفلسطيني؟ أم أن الذين يحملون السلاح هم من يمثل الشعب الفلسطيني؟

بعد كل ما حدث ويحدُث، هل يليق بشعب الجبّارين، الشعب المقاتل، الشعب الذي قاد عملية طوفان الأقصى، أن تمثله السلطة الفلسطينية، التي تعدّ اليوم أداة أمنية بيد حكومة الكيان، وتنفذ أوامر رئيسها نتنياهو؟ السؤال الأشد حضورا، تُرى، ألا يحق لغزّة اليوم، بمقاتليها ومقاومتها وشهدائها وتضحياتها، أن تكون الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، بعد أن أوفت بكامل استحقاقات هذا التمثيل، وسدّدت الثمن غير منقوص؟

449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
عوني القلمجي

كاتب وسياسي عراقي رئيس التحالف الوطني العراقي سابقا

عوني القلمجي