كيف نتذكّر ثورة 14 تموز في العراق

15 يوليو 2022

عبد الكريم قاسم يشرح أهداف ثورة 14 تموز أمام حشد في النجف (9/8/1958/Getty)

+ الخط -

جاءت ثورة 14 يوليو/ تموز (1958) تتويجا لنضالات الشعب العراقي ضد المحتل البريطاني، والتي بدأت فعليا مع ثورة العشرين المجيدة التي شارك في انطلاقتها مختلف فئات الشعب، من علماء دين وشيوخ عشائر وتجار المدن وعامة الناس. وقد اعترف بقوتها وفاعليتها العدو قبل الصديق، فقد كتب عنها مؤرخون عديدون، من عراقيين وأجانب، بينهم عبد الرزاق الحسني وعلى الوردي وعلوان الياسري والمؤرّخ الكردي كمال مظهر ومحمد مهدي البصير ورضا الشبيبي وشيخ الشريعة عبد الحسين الحلي ومحمد صادق بحر العلوم وسليم الحسين ومزهر الفرعون ووميض عمر نظمي والروسي كوتو لوف والسير هولدينغ قائد قوات الاحتلال التي شاركت بقمع الثورة، وكذلك الحاكم العسكري في العراق، أرنولد ولسن. وكان من بين أهم أهدافها، الاستقلال التام للعراق، والدفاع عن عروبته، وقيام حكم دستوري، ديمقراطي، برلماني مستقل. أما نتائجها فقد وصفها المؤرّخون بالعظيمة، على الرغم من فشلها عسكريا، حيث أجبرت بريطانيا على التخلي عن الحكم المباشر وتشكيل حكومة من العراقيين، ثم القبول بإعلان العراق دولة ملكية ناقصة السيادة.

هذا المكسب الوطني، على الرغم من محدوديته، حفّز الجيش العراقي الوليد، لأن يلعب دورا مهما في نضالات العراقيين، لاستكمال مهمة استقلال العراق، حيث قام الجيش بانقلاب عام 1936 بقيادة بكر صدقي، تلاه انقلاب ارتقى إلى مرتبة ثورة قومية قادها العقداء الأربعة، صلاح الدين الصباغ وكامل شبيب وفهمي سعيد ومحمود سلمان، إضافة إلى المحامي والصحافي يونس السبعاوي. وكان في مقدمة هؤلاء السياسي الكبير رشيد عالي الكيلاني. لتعقبه انتفاضات ووثبات عديدة قادتها الأحزاب الوطنية، مثل وثبة 1948، التي أسقطت معاهدة بورت سموت الجائرة، وانتفاضات 1952 و1954 و1956، رافقتها نشاطات سياسية توّجت عام 1957 بتشكيل جبهة وطنية من الأحزاب الرئيسية، الاستقلال بزعامة صديق شنشل والشيوعي العراقي بقيادة سلام عادل والبعث العربي الاشتراكي بقيادة فؤاد الركابي والوطني الديمقراطي بزعامة كامل الجادرجي. في حين نشط ضباط كبار كثيرون بالجيش العراقي، فشكّلوا قيادة تحت مسمّى الضباط الأحرار. الأمر الذي أدّى إلى تفجير ثورة 14 تموز. ولم تجد نفعا الإجراءات التي أقدم عليها الوصي عبد الإله، بغية امتصاص الغضب الشعبي العارم، مثل تأليف وزارة توفيق السويدي، وإعلانها العزم على إعادة الأوضاع الطبيعية للبلاد وإنهاء الأحكام العرفية وإطلاق حرية الصحافة والسماح بتأليف الأحزاب السياسية.

ألغت الثورة سياسة الانحياز نحو الغرب والأحلاف العسكرية، التي تبنّاها النظام الملكي، وأدت إلى إضعاف العراق عسكرياً

كان يوم الثورة مشهودا، حيث خرج عموم الشعب العراقي إلى الشوارع من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، يكبر باسم الثورة وبأسماء زعمائها. في حين عمّ الحزن والهلع في معسكر الدول الاستعمارية، حيث أصدرت الولايات المتحدة أوامرها في اليوم التالي، 15 يوليو/ تموز، بإنزال قوات الأسطول السادس الموجود في البحر المتوسط في لبنان، للتأهب للدخول إلى بغداد وإعادة النظام الملكي. وأنزلت بريطانيا قواتها في الأردن للغرض نفسه بعد ثلاثة أيام من اندلاع الثورة، إضافة الى إعلان حالة الإنذار لقطعاتها العسكرية في الخليج، وخصوصا في الكويت والبحرين. أما موقف الشارع العربي من الثورة، وخصوصا القوى التحرّرية والوحدوية، فقد كان مؤيدا ومساندا، فانطلقت مظاهرات التأييد، وألقيت الخطب الحماسية في التجمعات والساحات في عموم البلاد العربية.

على الرغم من خلافات حدثت بين قادة الثورة، وخصوصا بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، وعلى الرغم من تحوّل هذه الخلافات الى صراع انتهى بقيام العقيد الركن عبد الوهاب الشواف بانقلاب فاشل أدى إلى إعدام بعض قادة الثورة، على الرغم من ذلك كله، حققت ثورة 14 تموز إنجازات مهمة وتحولات كبيرة في المجتمع العراقي، ما زالت تأثيراتها باقية. على الصعيد الداخلي أقامت النظام الجمهوري، وأعلنت الخروج من حلف بغداد وإلغاء الاتفاقيات والمعاهدات الجائرة. وشجعت على تفجير الوعي السياسي لدى الجماهير الشعبية الواسعة التي كانت محرومة من المساهمة العلنية في النشاطات السياسية. وبذلك رفع مستوى الوعي لدى الجماهير بحقوقها وواجباتها الوطنية، لتنغمر في نشاطات الأحزاب وتحقيق حرية التعبير والتفكير والعمل النقابي والسياسي والثقافي، وذلك بصدور قانون الجمعيات عام 1961، والذي بموجبه أجيز ما يقارب من 700 جمعية، بالإضافة الى إجازة الأحزاب المؤمنة بالديمقراطية. كما جرى إلغاء الطائفية التي مورست خلال الحكم العثماني وبدايات العهد الملكي، الأمر الذي أدى إلى تعزيز مقومات الهوية الوطنية العراقية.

شرّعت الثورة قانون الأحوال الشخصية الذي بموجبه أعاد الاعتبار للمرأة العراقية التي كانت مسحوقة قبل الثورة

كما ألغت الثورة سياسة الانحياز نحو الغرب والأحلاف العسكرية، التي تبنّاها النظام الملكي، وأدّت إلى إضعاف العراق عسكرياً، لأن الدول الغربية لم تزوِّد العراق بالسلاح خلال تلك الفترة. حيث كشفت ثورة 14 تموز أن العراق لم يكن يملك حتى شبكة رادار، بالرغم من أنه عضوٌ في حلف بغداد. أما سياسة الحياد التي تبنّاها النظام الجمهوري، فقد أدت إلى حصول العراق على الأسلحة من المعسكرين الشرقي والغربي.

وبما يتصل بالسياسة العربية والمواقف القومية، جرى توقيع معاهدات ثقافية واقتصادية وعسكرية مع الجمهورية العربية المتحدة آنذاك، والعمل على تقوية التضامن العربي وتنشيط دور العراق ضمن مؤسسات جامعة الدول العربية ودعم حركات التحرّر الوطني العربية، منها، دعم الثورة الجزائرية وتخصيص مليوني دينار سنوياً من الميزانية لها، وكان هذا مبلغاً كبيراً، إذ كان يشكل نسبة 2% من الميزانية العراقية. وكان العراق أول دولة تعترف بميلاد الجمهورية الجزائرية. ودعم نضال الوطنيين اللبنانيين ضد حكومة كميل شمعون والتدخل الأميركي، كما أسست الثورة جيش التحرير الفلسطيني، وأُفسح المجال أمام الشباب الفلسطيني للتدريب والعمل في الجيش العراقي ومعاهده. وفي السياسة الخارجية، حرّرت ثورة 14 تموز سياسة العراق الخارجية من كل سلطان وتوجيه خارجي، تهدف إلى تحقيق مصلحة العراق ومصلحة العرب والحرية والسلام في العالم. كما ساهم العراق بدور فعال في تأسيس منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، والتي صارت سلاحاً ماضياً لحماية حقوق الدول النفطية، ووقع معاهدات صداقة مع الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية.

وعلى المستوى الاجتماعي، جرى إلغاء العلاقات الإقطاعية، وإلغاء قانون حكم العشائر، الذي كان يخوِّل شيوخ الإقطاع بحسم القضايا الجزائية في مناطقهم، وهو قانون سنّه الإنكليز لإرشاء شيوخ العشائر لكسب ولائهم. كما صدر قانون الإصلاح الزراعي وألغي الإقطاع. وهذا بحد ذاته يعد ثورة اجتماعية لصالح الملايين من الفلاحين الفقراء. كما شرّعت الثورة قانون الأحوال الشخصية الذي بموجبه أعاد الاعتبار للمرأة العراقية التي كانت مسحوقة قبل الثورة. وأقرّ القانون مساواتها بالرجل في الميراث، وشهادتها في المحاكم. كذلك عالج مسألة تعدّد الزوجات في صالح المرأة. وبذلك أعادت الثورة للمرأة اعتبارها كإنسانة لها كرامتها وشعورها بآدمتيها، وفسح المجال أمامها لتلعب دورها الكامل في بناء الأسرة والمجتمع، ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات. وفي ما يخصّ التعليم، زاد عدد المدارس والمعاهد العلمية وعدد الطلبة والمدرسين خلال أربع سنوات ونصف السنة من عمر الثورة إلى ضعف ما حققه النظام الملكي خلال 38 عاماً. إضافة إلى إرسال آلاف الطلبة إلى الخارج في بعثات دراسية في مختلف المجالات العلمية اللازمة لبناء الركائز الاقتصادية وإدارتها وإدامتها، وخصوصا المرافق النفطية.

ثورة تموز وطنية وشعبية بامتياز، وليست انقلاباً عسكرياً، شارك بتفجيرها الضباط الأحرار بالتنسيق مع جبهة الاتحاد الوطني

على المستوى الاقتصادي، حررت الثورة النقد العراقي من الكتلة الإسترلينية. وهذه من أهم الخطوات في تحرير الاقتصاد العراقي من قيود التبعية البريطانية، فبدلاً من الاعتماد على الإسترليني ومشكلاته في تذبذب قيمته في أسواق العملة كرصيد احتياطي للدينار العراقي، اعتمدت العملة العراقية في عهد الثورة على تنوّع الأرصدة، من الذهب والدولار وعملات صعبة أخرى، ما قوّى قيمة الدينار، خصوصا في فترات تعويم الاسترليني الذي انخفض إلى نصف قيمة الدينار العراقي. وجرى أيضا إلغاء الامتيازات البترولية في الأراضي العراقية، ما عدا المناطق المستغلة فعلاً. وأصدرت حكومة الثورة القانون رقم 80 لعام 1961، فحرّرت بموجبه 99.5% من الأراضي العراقية من سيطرة الشركات النفطية العالمية، وهذا يعتبر ثورة حرّرت العراق من شكل آخر من الاستعمار. وبذلك وضعت الأسس القوية لتأميم الثروة النفطية. كما وسنّت حكومة الثورة قانون تأسيس شركة النفط الوطنية. وأرسلت الحكومة بعثات دراسية إلى الخارج في مجال هندسة النفط، الأمر الذي سهّل تأميم النفط لاحقاً، إذ لم تهتم السلطة في العهد الملكي بتدريب كوادر عراقية في مجال النفط. وتجدر الإشارة إلى إبرام اتفاقية التعاون الاقتصادي مع الاتحاد السوفييتي، فبموجبها أنشأ العراق مؤسسات اقتصادية كثيرة ، مثل مد الخط العريض بغداد- البصرة ومعمل الزجاج في الرمادي ومعمل الأدوية في سامراء ومعمل الجلود في الكوفة ومعمل التعليب والألبان في كربلاء والميناء العميق، 25 ميلاً جنوب مصب شط العرب، لتصدير النفط. وبذلك حقق توسعاً في مياهه الإقليمية في الخليج ووسّع من صادراته النفطية. ناهيك عن تنفيذ مشاريع عديدة، منها بناء مدينة الثورة، وشق طرق سريعة وإنجاز مشروع قناة الجيش وغيرها.

باختصار، ثورة تموز وطنية وشعبية بامتياز، وليست انقلابا عسكريا، كما يحلو لبعضهم تسميتها. شارك بتفجيرها الضباط الأحرار بالتنسيق مع جبهة الاتحاد الوطني، ونالت التأييد الكامل من الشعب العراقي والشعب العربي وجميع شعوب العالم الحرّة.

449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
عوني القلمجي

كاتب وسياسي عراقي رئيس التحالف الوطني العراقي سابقا

عوني القلمجي