غزة المقاوِمة الباقية
لم يتخيّل الكيان الصهيوني، ولا لحظة، أن عملية طوفان الأقصى التي نفذتها مجموعات من المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس، ستمرّغ أنفه بالتراب، ويصبح جيشه الذي لا يقهر أضحوكة بين الخبراء العسكريين في كل أنحاء العالم، خصوصا أن شباب كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس قد ساقوا عشرات الضباط والجنود منه أسرى. ولم يشفع لهذا الكيان ليستعيد توازنه اصطفاف أميركا وأوروبا معه في هذه الحرب، فليس غريبا أن يفقد هذا الكيان توازنه العقلي، فيرتكب حرب إبادة ضد قطاع غزة بأكمله، لتشمل المدنيين، من نساء ورجال وشيوخ وأطفال، ويدمّر البنى التحتية للقطاع، ويهدم المستشفيات ودور الرعاية الصحية وغيرها. وزاد في خيبة قادته أنه لم يتمكّن من الوصول إلى أيّ من قيادات "حماس" أو حلفائها من الفصائل المسلحة. بل لم يستطع أسر مقاتل واحد، على الرغم من الاشتباكات والمعارك الكبيرة في أثناء محاولات اجتياح غزّة.
عملية طوفان الأقصى نوعية وفريدة، وليس بإمكان أي عقل عسكري تخيّلها، فهي خرقت كل الدفاعات والتحصينات المتينة المحاطة بسياج إلكتروني تحميه تكنولوجية عالية التطور. وقد ذكرت دراسة نشرتها مجلة نيوزويك الأميركية، في عددها في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، إن مقاتلي "حماس" اخترقوا بأعجوبة سلسلة الجدران والسياجات الأمنية الإسرائيلية على حدودها مع غزّة (حوالي 70 كم). وهي تعج بأجهزة الاستشعار والأسلحة الآلية، ومدعومة بشبكة استخبارات إلكترونية دقيقة، تراقب كل مكالمة هاتفية ورسالة نصية وبريد إلكتروني في قطاع غزّة. ويقف جيش كبير ومدرّب جيدا على أهبة الاستعداد، بأحدث الأسلحة للرد بسرعة على أي تهديد. وقد بنيت هذه الدفاعات بالتكنولوجيا نفسها التي تستخدمها جيوش حلف الناتو، لمراقبة الحدود مع روسيا والشرق الأوسط. وجاء في الدراسة وبالحرف الواحد "ترك هذا الهجوم الإسرائيليين، سواء كانوا مواطنين أو خبراء عسكريين على حد سواء، في حالة صدمة عميقة إزاء الحالة التي ظهر بها ضعف البلاد". و"أن هذه العملية، تردّدت أصداؤها في قاعة وزارة الدفاع الأميركية، والمؤسّسات العسكرية في بلدانٍ عديدة".
يخرج من يدقّق في عملية طوفان الأقصى، أكثر من ذلك، بنتيجة واحدة، أن هذا الكيان لم يعد له على المدى البعيد مستقبل في المنطقة، وأن الصهاينة الذين يعيشون داخل الكيان فقدوا الأمن والاستقرار، الذي كانوا ينعمون به قبل الطوفان. حيث حزم الآلاف منهم حقائبهم، والآلاف من الآخرين على الطريق، عائدين إلى البلدان التي قدموا منها. بل حتى الانتصارات التي حققها جيش الاحتلال ضد الجيوش العربية أصبحت من الماضي، على الرغم من أنها تركت جرحا عميقا في الذاكرة العربية.
تتواصل المقاومة الفلسطينية، وترفض الاستسلام لشروط المحتل، وهي تتّخذ من غزّة منطلقا لعملياتها
من يعتقدون أن الكيان الصهيوني ما زال قويا وقادرا على هزيمة المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس، وأنه حقق انتصارا على هذا الطريق بتدمير غزّة، فهم يجانبون الصواب، أو عقليتهم ساذجة، فلكل حرب هدف سياسي، فإذا لم يتحقق تصبح الحرب انتقامية، الغرض منها تحويل الأنظار عن الهزيمة، في محاولة لاستعادة ماء الوجه. والهدف السياسي الذي أعلنت عنه القيادة الصهيونية، تحديدا رئيس الوزراء نتنياهو، الإجهاز على "حماس" تماما، وقال إنه لا مكان لحماس في غزّة بعد الحرب. وكما يشاهد العالم، ما زالت "حماس" وحلفاؤها من الفصائل المسلحة تقاتل بكل شجاعة، وتكبّد جيش الاحتلال خسائر كبيرة، على الرغم من مرور 50 يوما على بدء الحرب. في حين أن في وسع الدولة القوية أحيانا تحقيق هدفها السياسي من دون إطلاق طلقة واحدة، إما عن طريق التهديد بالحرب، أو بفرض الحصار الذي لا يمكن تحمّله فترة طويلة، أو اللجوء إلى ضربات عسكرية موجعة.
ليس هذا كل شيء، فالكيان، بعد فشله في تحقيق هدفه السياسي، اضطرّ إلى الاعتراف بحركة حماس طرفا في الحرب، وأجرى مفاوضات غير مباشرة معها عبر دول أخرى وبشروط حماس، حيث جرى الاتفاق على هدنة مؤقتة يتم خلالها تبادل الأسرى بين الطرفين المتحاربين. وهذا يعني أن نتنياهو استسلم للأمر الواقع، بعد أن رفض بشدة القبول بهدنة عسكرية أو إنسانية مؤقتة، قبل استسلام "حماس" من دون قيد أو شرط. وبالتالي، حقّقت المقاومة أهدافا سياسية عدّة، وليس هدفا واحدا. بدأ بكسر حاجز الخوف من القوة التي لا تقهر، ومرورا برفض الشعوب كافة هذا الكيان، واعتباره مجرم حرب، بعد أن كانت هذه الشعوب مخدوعة بمشروعية وجود الكيان الصهيوني وحقّه في الدفاع عن النفس، وانتهاءً بوضع ملفّ القضية الفلسطينية على طاولة دول العالم، بعد أن طواها النسيان.
بعد فشله في تحقيق هدفه السياسي، اضطر الكيان إلى الاعتراف بحركة حماس طرفاً في الحرب وأجرى مفاوضات غير مباشرة معها
تتواصل المقاومة الفلسطينية، وترفض الاستسلام لشروط المحتل، وهي تتّخذ من غزّة منطلقا لعملياتها، ففي مدينة جباليا في القطاع، وفي ديسمبر/ كانون الأول 1987، السنة التي تشكلت فيها حركة حماس، قامت انتفاضة عملاقة انتشر لهيبها إلى مدن فلسطين وقراها ومخيماتها في غزّة والضفة الغربية وأراضي 1948، مستعملين الحجارة والسلاح الأبيض، وتميّزت هذه الانتفاضة عن سابقاتها بكثرة المواجهات المسلحة بين المقاومة وجيش الاحتلال. ولم تتوقف الانتفاضات، على الرغم من استشهاد، حسب المصادر الفلسطينية والصهيونية، قرابة 4412 فلسطينيـا، و من 48322 جريحا ومصابا، في حين قتل 650 إسرائيليا معظمهم من الجنود، من بينهم وزير السياحة في الحكومة الإسرائيلية في أكتوبر/ تشرين الأول 2001، رحبعام زئيفي وإصابة 4500 بجروح.
باختصار، ليست هذه المرّة الأولى التي تتعرّض فيها قوات الاحتلال لهجماتٍ موجعة من فصائل المقاومة المسلحة، وتتعرّض بالمقابل المدن الفلسطينية لدمار وخراب. ومنذ فوز "حماس" الكبير في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، وغزّة بالذات تتعرّض للحصار والاجتياح وهدم البيوت والبنى التحتية وتدمير المزارع وقتل الأطفال واعتقال الآلاف. لكن شعب فلسطين في غزّة وبقية المدن مصر على مواصلة القتال ضد الكيان الصهيوني، واعتبار "حماس" وحلفائها من الفصائل المسلحة الأخرى الوريث الشرعي لكل نضالات الشعب الفلسطيني الجبّار. وقد أصبح هذا الوريث قادرا على مواجهة المحتل في كل زمان ومكان. وما دامت غزّة باقية، ستبقى المقاومة، بقيادة "حماس" وحلفائها، وستنضم إليها بكل تأكيد كل مدن فلسطين المحتلة، وكل فصائل المقاومة الأخرى، بما فيها المنضوية تحت خيمة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. عندها ستكون المعارك المقبلة فاصلة فعلا.