لعنات ليست الشعوب بريئة منها
في القرن الواحد والعشرين، لا يزال يحصل انتقال جماعي قسري لسكانٍ من أرض إلى أخرى. يتكرر ذلك اليوم في أكثر من مكان، في ميانمار مع الروهينغا مثلاً، مع الفلسطينيين في مسلسل لا ينتهي، وحالياً مع 120 ألفاً من أرمن كاراباخ من دون أن تُرتكب مجزرة بحقهم، بل لأنهم يفضّلون حرق منازلهم بأنفسهم وهجرها على أن يحملوا بطاقات هوية أذربيجان. منطقة القوقاز بجبالها الوعرة وتتوزعها دول ثلاث، أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، تحمل على كتفيها وزر التاريخ وثقل الجغرافيا معاً بما يجعلها تنافس الشرق الأوسط كمقر لذاكرة لا تموت وليتها تفعل ذلك، وكمهرجان لتاريخ دموي وتجمّع لقضايا عصية على الحلول. تاريخ أرمن وأذريين وجورجيين محشورين بين الفرس والعثمانيين والروس وإمبراطورياتهم القديمة فالحديثة ثم المعاصرة التي مارست هوايتها حتى نهاية القرن التاسع عشر في تهجير شعوب المنطقة وتبديلها ثم إعادة توطينها في أراضٍ بعيدة عن مسقط رأس أجدادها. شيء قريب مما تفعله الخلّاطة الكهربائية ينتج روايات تاريخية لا تتفق في ما بينها على أي قاسم مشترك.
يروي التاريخ أنه عشية الحرب العالمية الأولى، أي قبل حوالي مائة عام فقط، كان الجورجيون أقلية في عاصمتهم الحالية، تبليسي، كحال الأذريين في المدينة التي صارت عاصمتهم، باكو. أما الأرمن فلا يقلّون هوساً بسردياتهم القديمة خصوصاً في ما يتعلق بما هو ديني فيها، ليخبروا أن تلك المنطقة الجبلية، كاراباخ (4 آلاف كيلومتر مربع)، أو أرتساخ مثلما يسمونها، لطالما جسدت نموذج "المقاومة المسيحية" الأرمنية منذ القرن الرابع ميلادياً. ذاكرة تحمّل السوفييت مسؤولية تسليم كاراباخ إلى أذربيجان في العام 1921. أما الأذريون فحجتهم أن سكان كاراباخ الأرمن اليوم هم من الألبان المسلمين الذين تمّ تنصيرهم وفرض الهوية الأرمينية عليهم. والتاريخ بمراحله كافة مليء بالأسماء التي يرفعها الأذريون إلى رتبة الاحترام الأسمى، بينما يلعنها الأرمن صبحاً ومساء. من هؤلاء الجنرال البريطاني ويليام تومسون الذي، عشية انهيار السلطنة العثمانية وانسحاب الأتراك من أذربيجان عام 1918، أمر بإعطاء كاراباخ إلى أذربيجان وكأن العالم لعبة مونوبولي عند السيد تومسون. ومنذ ذلك التاريخ، كاراباخ جزء من أذربيجان في أدبيات عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة، أكانت دولة مستقلة منذ مطلع التسعينيات أو جمهورية من ضمن الاتحاد السوفييتي.
الدهشة التي أصابت رئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشينيان من موافقة روسيا على فرض أذربيجان شروط الاستسلام على أرمن كاراباخ قبل أيام، ما كان يجب أن تصيبه لو كان يعرف القليل عن فلاديمير بوتين بوصفه الحقد مجسداً في رجل. بالنسبة إلى بوتين، بما أن باشينيان وصل إلى السلطة في يريفان بثورة ديمقراطية "ملوّنة"، فلا بد من أن يدفع ثمن رغبته باستقلال بلاده عن الوصاية الروسية اليوم وغداً وبمفعول رجعي. رواية يلاقيها في منتصف الطريق كثير من الأرمن الذين لا ينسون أن باشينيان نفسه لم يشارك بحروب التسعينيات في كاراباخ، وهذه معمودية دم لا غنى عنها بالنسبة لأي أرمني يطمح بأن يسجل اسمه قائداً وطنياً. معلومة تضاف إلى مصفوفة الأسباب التي غالباً ما تجعل من الشعوب متواطئة في اللعنة التي تصيبها أو غير بريئة منها.
يتذكر أصحاب الذاكرة النضرة كيف اضطر الرئيس الأرميني السابق ليفون تير بيتروسيان إلى الاستقالة تحت الضغط الشعبي في 1998 لأنه تجرّأ واقترح مشروع سلام لقضية كاراباخ. أغلب الظن أن يستقيل باشينيان قريباً أو أن يُطاح به عقاباً على تضحيته بكاراباخ من أجل الحفاظ على أرمينيا مثلما أوحت عبارته يوم الخميس الماضي: "علينا إنهاء النزاع (في كاراباخ) من أجل صون استقلالنا". وكأنه يقول إنه عندما تتفق إرادات روسيا وتركيا وإيران، ما على "تفاصيل جغرافية" مثل أرمينيا إلا محاولة إنقاذ رأسها والإكثار من الصلاة إلى حين ينتهي شهر العسل بين الإمبراطوريات.