لبنان وسنوات شقاء بدأت متأخرة
تشعر، وأنت تعيش في لبنان هذه الأيام، وتكتب فيه وعنه، وكأنك في مكانٍ منفصلٍ عن باقي أصقاع الأرض. بقعة جغرافية نائية ومعزولة، لا مرفأ فيها وبالكاد مطار. الاتصالات فيها شبه مقطوعة، الكهرباء اسم بلا مضمون، خدمات أساسية وحيوية غير متوفرة، لا رقابة ولا أمان، البيئة اللبنانية التاريخية تُنتَهك وتُقضَم بشكل مستمرّ... وجوازات السفر مصادرة لخلاص فردي مؤجَّل.
لذلك، يمكن القول إن أحوال لبنان مؤجّلة وغير متعيّنة، هي شيءٌ آخر مختلف تمامًا عن كل تعيين، على مستويي الشكل والمضمون. أحوالٌ فيها من السوداوية والانعدام على مستوى الإمكانات، ما يكفي لهضم كل شيء. وهو أمر يحتّم على اللبنانيين البحث عن مصطلحات مزخرفة بالانسداد، وتكون خير تعبيرٍ عن حالة الانهيار التي يعيشونها.
لا يؤسّس هذا الكلام لأي حالة تمايز كالتي اعتادها اللبنانيون في الثقافة المعطوبة المستمرّة. كما وأنه كلام لا يطمح ليعيد إنتاج ما كان. لقد انتهت صلاحية كل المعايير التي أدّت الدور المحوري في الأيديولوجيّة اللبنانويّة المهيمنة على هذا البلد منذ نشأته، الهادفة إلى عزله عن محيطه العربي والتحاقه بالآخر الرأسمالي الغربي على وجه الخصوص، حين كانت العنجهيّة اللبنانويّة تدير ظهرها لمحيط لبنان الحيوي، ولأواصر الشعب وآماله ومستقبله وإمكاناته. كان هدف هذه الأيديولوجيّة، ومنتجيها، الطمع بالتحاق لبنان بالرأسمالية من دون أي إنتاج رأسمالي، بل بالادّعاء وبالأصل الكامن، بالجعجعة والشعارات الطنّانة المفتقرة إلى أي مضمون، وإلى كل ترجمة على أرض الواقع.
أنهى الانهيار النظرة الاستعلائية اللبنانويّة تجاه الكون، وتجاه بقية الألوان والشعوب والثقافات
ما يعيشه اللبنانيون اليوم أنموذج حي عن انهيار مستحقّ يضرب عميقًا للمرة الأولى والاستثنائية في تاريخه. انهيار يقوّض معادلة "كيف ما ترمي اللبناني بيجي واقف"، كما يقول المثل الشعبي الذي يغذّي، وبشكل مستمر، الفرادة اللبنانويّة، ويغذّي معها كل دور في إذكاء أوهام الحياة وتنمية كل منازل تحصيل الحاصل الفارغ من أي مضمون. لقد وقع اللبنانيون طبًّا على وجوههم هذه المرّة، وقعة لطالما تحايلوا عليها فأتت أشد فتكًا من أي انزلاق وأي وقوع يمكن أن يطاول مجتمعًا آخر، أو شعبًا مختلفًا. لطالما كانت فرادة اللبنانيين تحايلًا على شروط الفيزياء، والكيمياء، والاقتصاد، والسياسة، والعلاقات الدولية، والقانون، وقواعد السوق والإنتاج والتصريف، والزمان والمكان والتاريخ، ما حتّم أن تكون نتيجة الوقوع أشدّ ضررًا وأبلغ أثرًا.
لقد وصل لبنان إلى نقطةٍ لم تعد تنفعه كل البهلوانيات التي مارستها المصارف، والمستشفيات، والجامعات، والمراكز السياحية، وحلبات التزلّج ... إلخ. كما وأن لا إمكانية للبنان، بعد الآن، للانتفاع من أيٍّ من أشكال تهريجات قوى السلطة، ولا من قفزاتها البهلوانية على حبال الخطر التي صفق لها معظم الشعب في العقود السابقة وما بين انتخابات وأخرى. لقد وصل الوضع في لبنان إلى مرحلة لم يعد تكفيه فيها كل آليات شراء الأصوات، والذمم، التي هيمنت على الممارسات في عمق المجتمع، والتي يطلقون عليها تسمية "سياسة" بشكلٍ يحرّف مضمون علم السياسة ومنهجياته. كما وأنه لم يعد يكفي لبنان كل علاقات اللبنانيين بمحيطهم، وبالآخرين، انطلاقًا من الأرضية ذاتها، في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أو المساهمة في اقتناء ما تبقّى من أوهام حياة كانت بالاسم كريمة.
ما يعيشه اللبنانيون أنموذج حي عن انهيار مستحقّ يضرب عميقاً للمرة الأولى في تاريخه
لقد انتهى البلد، وانتهت معه أوهامٌ لطالما سادت، وانتهت معها وبها تيارات فكرية فيها من الانتهازية ما يكفي لإفساد كل ما تقع عليه عين. كلها الآن تلفظ أنفاسها، أملًا بالرحيل إلى غير رجعة هذه المرّة. لقد أنهى الانهيار النظرة الاستعلائية اللبنانويّة تجاه الكون، وتجاه بقية الألوان والشعوب والثقافات. انتهت آلية تضخيم الذات. فما نراه هو بقايا كائنات كانت منتفخة بشكل يتخطى قدرتها، وها هي تعيش موعد الحساب المؤجَّل بالارتطام. لقد اصطدمت على عجل، على نحو يشي بأنها بالون منتفخ شكّه رأس دبوس حادّ، فكل ما يعايشه اللبنانيون، ويرونه، هو حطام متحرّك بفعل العوامل الطبيعية وما تبقّى من غرائز. لا روح تحرّكهم بعد أن دخلوا باب الانفصام اليومي بين آمال وأحلام خارج الحدود، وموت ويأس وإحباط داخلها.
يقول قائل بين حين وحين: ليست الأمور على هذا النحو الكارثي، ولا على هذا القدر من المأساوية. ها نحن في لبنان نتحرّك، ونأكل، ونكتب. نعيش، ولو ساعة بساعة، إلا أننا نعيش. ما زلنا نستطيع أن نتحايل على الوقت، وعلى شروط الحياة، وهذا دليل عافية. ها هم القادمون يستطيعون رؤية بعض الروح والألوان، وبعض الزفير الذي يخرج من أنوفنا وكأننا أحياء نُرزق. فلنستمتع بهذا القدر، وبهذا المنوال من الوجود المتشظّي، لعلنا ننجو مما نحن فيه، لعلنا ننتهي من هذا المرور في برزخ أشدّ ألمًا من كل التفاصيل اليومية في حياة لبناني عاجز، فنحن نستطيع، ونحاول، ولو بالحدّ الأدنى. .. إلا أنها محاولات تُرهب اللبنانيين وتزيد من قلقهم، فهي لا تبدّد ألمًا ولا تبعد خطرًا، بل تلتف وتحتال على شروط السائد، وترفض الاعتراف به وبكارثيته. إنها آلية إنكار، أن تمعن في النظر إلى الانهيار من موقع غير المنهار. وهذا الإنكار، بالتحديد، هو ما يشي بعمق الهاوية والانسداد الذي يقبع اللبنانيون فيه.