لبنان .. تجاوز سؤال "إلى أين؟"
السؤال الوجودي الذي ما انفكّ اللبنانيون يطرحونه على أنفسهم، وعلى قادتهم وأحزابهم، منذ إرساء النظام الطائفي، ورد أيضاً على لسان قادة لبنانيين، منهم وليد جنبلاط الذي كرّر في عدة مقابلات السؤال: إلى أين؟ وأطلقت المخرجة نادين لبكي الاستفسار نفسه في فيلمها "وهلق لوين؟". ويحمل السؤال في مضامينه الحركة، لكنّ الحقيقة أنّ الوضع اللبناني ما زال جامداً منذ لحظة الاستقلال، على الرغم من مرور حربين أهليتين متفاوتتين في الحجم، ومرور رؤساء لبنانيين محسوبين على جهاتٍ عديدةٍ خارجيةٍ ودوليةٍ وإقليمية، وظهور أحزاب طائفية وقومية وعلمانية. ولم يفلح ذلك كلّه في زحزحة الحالة اللبنانية. وملمح الجمود يُظهر فشل الطبقة السياسية في إنتاج مزيد من القادة ذوي الكاريزما القادرة على إفراز حالةٍ وطنية جامعة، أو توليد نوع آخر من الأحزاب المتفاعلة مع الحالة المحلية والمؤهلة لإيجاد بدائل في هذا الظرف العاجز عن تسمية رئيس وزراء غير سعد الحريري، لتشابك القضية التي تتبنّى شرطاً طائفياً وإرثاً قد يصعب تجاوزه للخروج باسم جديد يترأس الحكومة.
تضغط فرنسا بقوة، ومن ورائها الولايات المتحدة، لحثّ السياسيين الحاليين على الاتفاق، بشكل يغمض العين عن المشكلة الرئيسية. وقد عبّر الشارع اللبناني، منذ وقت مبكر من العام 2019، عن رأيه في كلّ الطبقة السياسية، وأعرب عن رغبة في تغيير حقيقي يجلب نمطاً آخر من القادة، وقد يكون هذا هو الحلّ الوحيد القادر على إنقاذ الدولة الصغيرة المتمسّكة بنظامها الطائفي، على الرغم من تجاوز الزمن تفصيلاته وبنوده. وقد تكون الدول التي تنادي بضرورة الاتفاق مسؤولة، وإن جزئياً، عن تجمد هذه الطبقة، وإبقاء الحال على ما هو عليه، بعدما ورث كلّ الأبناء آباءهم، وورثوا مواقف آبائهم وولاءاتهم وأحزابهم وكلّ متعلقاتهم "الوطنية" من دون أن يُغفل وجود إيران التي دخلت بقوة معتمدة على ثغرات، منها الحالة الطائفية في لبنان، فأوجدت، بمعونة النظام السوري، مليشيا مسلحة قوية ذات أيديولوجيا وظفت لصالحها النظام اللبناني نفسه، واستخدمته درعاً لها، واستفادت كذلك من الحالة الإسرائيلية التي جاءت في صالحها، فرسخت الطائفية وعمّقتها، وولّدت قوى استقطاب ومرجعيات خارجية كثيرة، فأصبح لبنان ملعباً ليس لدول الإقليم فحسب، بل لوكلائها المحليين أيضاً.
وضع لبنان أمام مثل هذا الاستحقاق مرّات عديدة، وبأشكال مختلفة، فمرّة هو غير قادر على اختيار رئيس، وشغر قصر بعبدا فترات طويلة، قبل ترقيع التوافق على رئيس تم الاختلاف عليه. واليوم يقف لبنان عاجزاً عن اختيار رئيس للحكومة، ويبقى كرسيه شاغراً أو تشغله وزارة تصريف الأعمال فترات طويلة، ومرشّحة لأن تستمر بعد اعتذار سعد الحريري عن المهمة، وخلافه مع رئيس الجمهورية. المتغير هنا أنّ الوضع الاقتصادي يشهد أسوأ ظرفٍ له في تاريخ الجمهورية اللبنانية، وأسعار صرف العملات الأجنبية وصلت إلى أرقام قياسية، مع تدنّي القدرة الشرائية، وفوقها بالطبع تحدّيات مرض كورونا. يمكن أن يجد المواطن اللبناني العادي نفسه مجبراً على الخروج إلى الشارع وقطع الطرقات، من دون أن يعني هذا أنّ الحلّ قادم، لكنّه نوع من التنفيس الذي يولد عنفاً، قد لا يتطوّر إلى حالةٍ من المواجهات العامة، فالواقع أنّ الشعب اللبناني، وعلى الرغم من الحالة الطائفية السائدة سياسياً، يعرف أنّ المواجهة لا يجب أن تكون لطائفةٍ مقابل طائفة، لكنّها تتعلق بشعبٍ بحاجة لنظام سياسي جديد يأخذ باعتباره بالدرجة الأولى الحالة الاقتصادية للناس.
من المفهوم أنّ التغيير السياسي المفاجئ يمكن أن يقود إلى زلزال عسكري، من غير المتوقع أن يتحمله بلد صغير كلبنان. وفي الغالب لن يمرّ من دون تدخل خارجي كبير، وهذا بابٌ لمزيد من الأزمات، لذلك فالاحتمال الأكبر أنّ الشعب اللبناني سيتخلى عن سؤال "إلى أين؟" بعدما تأكد من عدم جدواه، ويستعيض عنه بعبارة "نحنا قاعدين" بمعنى تكرار لا نهائي لحالة الجمود.