لبنان المفْلس يجد ضالّته في اللاجئين السوريين
عشية انفجار الصراع الطائفي في لبنان حول التوقيت الجديد، بين من يريد أن يبقى على القديم، تحشيداً لمزيد من جماهير أبناء طائفته، في الشهر الفضيل، إذ يوفّر ساعةً من الجوع على الصائم من بينهم ... وبين من يريد أن يلحق ببقية العالم فيقدّم الساعة الواحدة، ويتهم أنداده بـ"الرجعية والتخلّف"، أيضا تحشيداً لأبناء ملّته، جماهيره ... عشية هذه الهمْروجة المضحكة - المبكية، كان صراع آخر، اتّحد حوله اللبنانيون، مسؤولين وجماهير، عنوانه تحميل اللاجئين السوريين مسؤولية انهيارهم وإفلاسهم.
القصة قديمة. وطليعتها الرائدة معروفة، ومنذ عشر سنوات. جبران باسيل نفسه، وهو في عزّ نشوته من مغانم الاتفاق الذي أحرزه عمّه، مع حزب الله، وقد أطلق مأثورته: "النزوح واللجوء هو أمر مرفوض بالدستور اللبناني، والحل الوحيد الممكن للنازحين هو في عودتهم إلى بلادهم". وقد ردّدها على مدار تلك الأعوام العشرة، وتلقّى ردود أفعال متفاوتة، صامتة من حلفائه، فاترة من خصومه، وأقلّ برودة من شخصيات وجمعيات مدنية تشتغل على الأرض.
ذلك أن لبنان وقتها كان يستفيد، بالمعنى الحرفي للكلمة، من هذا "الوجود" السوري المختلف. الأرقام غير النهائية التي رصدت المساعدات الدولية إلى اللاجئين السوريين، تتجاوز ثلاثة مليارات دولار. فضلاً عن تشغيل شركات الاتصالات والأفران وآلاف المنشآت الباحثة عن أياد عاملة رخيصة، من السوق السوداء... كم اغتنى رجال المافيا الحاكمة وحرّاسهم من المساعدات الدولية؟ كم من المبالغ سرقوا؟ أو الأرباح التي جناها المشغّلون اللبنانيون، الفالتون من القانون، في تسخيرهم تلك اليد العاملة؟
في هذه الأثناء، كانت أصوات أصيلة أو رديفة من المافيا تنقّ على هذا الوجود المكروه، فأقيمت مسرحيات "عودتهم إلى وطنهم"، وفُتحت "مكاتب تنسيق"، وكلّفت الأجهزة الأمنية بمواكبة هذه العودة، فكانت الحصيلة عودة 22 ألف لاجئ سوري... فقط لا غير، فيما عددُهم في لبنان يقترب من المليون، بحسب الأمم المتحدة. لماذا قلّة العائدين هذه؟ لأن بشّار الأسد يقتلهم مرّات إضافية لدى عودتهم، بعدما دمّر بيوتهم وأحرق حقولهم ورمى عليهم البراميل المتفجّرة: ينكِّل بهم أمنياً، يسجنهم، يلحقهم بجيشه، تفتقر الحياة في ظلّه إلى مقوماتها الدنيا...
يتعرّض السوريون في لبنان لحملات أمنية عنيفة دورية أو مفاجئة، أية جريمة تُرتكب يكون أول متهم بها سورياً
ولكن الوضع الآن يختلف. لبنان يعمِّق قاعه، يفْلس، فيما الحرب على أوكرانيا تجمّد المساعدات القليلة المرسَلة إلى اللاجئين السوريين، وجلها سُرِق... فمن يكون مسؤولاً عن الفقر الذي أصاب اللبنانيين؟ اللاجئون السوريون طبعاً. ومن يكون البوق هذه المرّة؟ محافظ، أرفع موظف في الدولة اللبنانية، محسوبٌ على نبيه برّي، توأم حزب الله وشريكه. يعلن في كلمة مسجّلة أن راتبه "أقل من راتب النازح السوري في لبنان" (حسَمها... "نازح"، لا لاجئ")، إذ يحصل على تقديماتٍ "لا يحصل عليها اللبناني". ويختم بكلمة خطيرة، لم تلحظها أيٌّ من وسائل الإعلام المطَبِّلة والمزمِّرة له: "ولا يمكن أن يكون هذا النزوح إلى الأبد بعيداً عن العنصرية".
انتشر فيديو المحافظ بقوة. أذاعته الأيادي البيضاء على جميع منابرها، وكسبت تأييداً عارماً من اشخاصٍ كانوا سابقاً يتضامنون مع اللاجئين، وباتوا يكرِّرون أقوال المحافظ: "المساعدات لهم ... يوظَّفون في كل مكان ... مطاعم، ملاه، سوبر ماركتات، محطات بنزين، ورش تصليح...". وقبل أن يتحول المحافظ إلى نجم تلفزيوني وإلكتروني جديد، أُلحق به بشريط آخر، نشرته صحيفة النهار، "الرزينة"، يحمل كل ملامح التلفيق والاختلاق. بطلَاه: رئيس بلدية القاع (منطقة البقاع أيضا)، المحسوب هو الآخر على المافيا، بالضرروة، ورجل مجهول، متنّكر بهندام "لاجئ سوري مسكين". والحبْكة: استجواب الأول للثاني حول عدد زوجاته واطفاله (16 طفلا)، وحول "ستة عشر مليون ليرة لبنانية يتقاضاها من مفوضية اللاجئين". أسئلة التحريض على أنهم "ينزعون اللقمة من فمنا"، وأخرى تضرب على الوتَر "الديموغرافي": "السوريين بيخلفوا كتير... بكرا بيصيروا أكتر من اللبنانية"... كلام تسمعه ليل نهار على لسان المواطن الذي يعاني من نفاد الخبز أو البنزين أو الدولار.
حزب الله باقٍ في سورية ويمارس تجاه أبنائها ما يمارسه الإسرائيليون تجاه الفلسطينيين
كاد هذا الشريط الثاني يتفوّق على الأول رواجاً. الشاشات الصغيرة، بعد صحيفة النهار، بثَّته، ومواقع التواصل لم تتأخّر. وصعدت اللهجة بين الناس، من أن كذا وكيت، ويجب أن نتخلّص منهم، إنهم ينهكون اقتصادنا. والذين يعتقدون بأنهم أقل ظلماً من الآخرين، "يعترفون" بأن اللاجئين السوريين "ليسوا كل المشكلة، ولكنهم جزء منها، وأسهلها حلاً... فلنبدأ بهم".
ولكن الحلّ ليس سهلاً على الإطلاق. من أحضرهم إلى لبنان عنْوة، هو بشّار الأسد وشريكه الإيراني مليشيا حزب الله. هذا الحزب طردَ الأهالي، احتلّ بيوتهم إذا لم يدمرها، أقام الحواجز العسكرية، والرقابة والخوات... هذا الحزب "يحرُس" القصير، وضواحي دمشق، والمصايف. لم يعاون هذا الحزب بشّار في مقْتلته ليعود إلى "قاعدته"، بعدّته وعتاده. بل مرتاح لبقائه هناك. مرتاح "إقليميا". يخوض معركة ترشيح سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية. والأخير هو صديق بشّار "الشخصي والتاريخي". يعتقده أكثر جدّية من باسيل، أقلّ طمَعاً وتقلّباً وتشاطراً.
إذن، حزب الله باقٍ في سورية. ويمارس تجاه أبنائها ما يمارسه الإسرائيليون تجاه الفلسطينيين. مع الفرق: في إسرائيل سلطة تسعى إلى حماية نفسها من أي رقابة قضائية، سلطة مطلقة يعني، لتزيد من استباحتها أراضي الفلسطينيين والتنكيل بهم، وذريعتها أنهم "إرهابيون". أما في لبنان، فلدينا سلطة متحرّرة تماماً من أية رقابة قضائية، تسعى إلى قتل شعبٍ مجاور، شقيق، وذريعتها أيضا أنهم "إرهابيون"، وتضيف إليها "تكفيريون". وربما مع فرق آخر، أن حال الفلسطينيين الحياتية، خصوصاً البعيدين عن أطماع المستوطنات الجديدة، قد تكون أفضل من حالة اللاجئين السوريين في لبنان.
ثمّة إفلاسٌ أخلاقيٌّ أساسي، سبقتنا إليه إسرائيل، فعدنا ولحّقنا أنفسنا، فصرنا نتشابه
أما غرض حزب الله من البقاء في سورية مثل غرض إسرائيل من سرقة مزيد من الأراضي في الضفة الغربية: التوسّع، بسط الهيمنة على أراضٍ جديدة، خلق ما يسميه القائلون بالجيوستراتيجيا "المجال الحيوي". وهذه عبارة اخترعها هتلر، وتعني إحتلال أراضي الغير لتحريك العجلة الإقتصادية الألمانية وقتها... وصار "المجال الحيوي" معتمَداً ومدعوماً بخرافات "أرض الميعاد"، اليهودية، و"لن تسبى زينب مرّتين"، الشيعية... لطرد أبناء الأرض من أرضهم، واستثمار هذا الطرد، بنواح تخطُر، ولا تخطر على البال.
أما بقية ملامح الشبه بين الاثنين، فيمكن ان تلتقطها بالعين المجرَّدة: كما يحصل ضد الفلسطينيين، يحصل مع اللاجئين السوريين، في مسكنهم، في تلك الخيم الفقيرة، المبتلاة بألف مصيبة ومصيبة. يتعرّضون لحملات أمنية عنيفة دورية أو مفاجئة، دائماً بحثاً "عن سلاح" غير موجود، أو أية حجّة أخرى، أية جريمة تُرتكب يكون أول متهم بها سورياً. وإذا ثبتت التهمة، وهذا يسهل في ظل فساد قضائي مبين، تكون حملة التلفون العربي الجديد، أي مواقع التواصل، من أن: "أنظروا! ألم نقل لكم؟ ألم نكن على حق عندما اتهمناهم بكذا وكيت من الرذائل؟". ثم عقوبات جماعية، كما يتعرّض لها الفلسطينيون. ناهيك عن عقوباتٍ فردية، هي من يوميات أي لاجئ سوري في لبنان، بين مخافر الفساد العلني، والتغطيات على هذا وذاك، و"قيمة الرشوة" أو "الأزلام" أو "الناظر" أو "الشاويش". فيما خطاب كراهية يرافق الاثنين: "الموت للعرب!"، صراخاً لدى الإسرائيليين. "الموت لللاجئين السوريين!"، لم يعُد همْساً في حالتنا. وكما اتجهنا شرقاً، نحو إستبداد ديني، تتّجه إسرائيل، مع حكم الأحزاب الدينية الشرقية، نحو إقرار تشريعات هي القاعدة الأولى لإقامة استبداد ديني ... إذا فشلت الاحتجاجات "العلمانية، الديمقراطية" بوقفها.
أفلسنا، ولم يبقَ أمامنا إلا اللاجئون السوريون. كما أفلست إسرائيل، وحجّتها الأقوى الفلسطينيون. وفي الحالتين، ثمّة إفلاسٌ أخلاقيٌّ أساسي، سبقتنا إليه إسرائيل، فعدنا ولحّقنا أنفسنا، فصرنا نتشابه. تماماً على طريقة المياه في الأواني المستطْرقة.