لا أستطيع أن أكون أمّاً
سبقت أم عمر الدراسات والتصنيفات الدولية عن مستوى العيش في سورية، وليس في دمشق وحسب، ووقعت بقلبها على ذلك التقييم، عندما رمت طفلها، مثل عشراتٍ غيرها من نساء سورياتٍ، أمام مسجد أو ميتم، تاركة رسالتها الشهيرة "غير قادرة على رعايته" بين ثيابه، من دون أن تنسى تذييل رسالتها بعبارة "ابن حلال". وفي حقيقة الأمر أنّ عمر "ابن حلال"، في ظروف "عيش حرام" تتوفر فيها سبل الحرب، وتُمنع عن الناس سبل العيش، حيث يحضر في بلادنا المال لشراء السلاح، ويشحّ عند حاجته لشراء مستلزمات الدواء والطعام، ويتوفر وقود الدبابات والطائرات التي تدكّ المدن والقرى بساكنيها، بينما يغيب "مازوت" التدفئة وضوء الكهرباء عن سكانها.
لم يُحمَ عمر، الرضيع الذي أهدرت والدته حقه وحقها في الأمومة أنه لم يُجهض وهو جنين، لتجريم الإجهاض في سورية، كما لن يُحمى آلاف غيره ماتوا ويموتون جوعاً أو مرضاً، أو تحت القصف، في بلد يشنّ نظامه الحاكم الحرب على شعبه المعارض له، وتتبارز الفصائل المحسوبة على المعارضة تحت الرعاية التركية في قتل بعضها بعضاً، كما تشنّ فروع عائلة الأسد، أقرباء رئيس النظام السوري، حروب فسادها فيما بينها، لينقسم شبّيحة النظام وأمنه بين الاصطفاف مع آل سليمان الأسد أو الانتقام لمقتل جعفر الأسد.
ليست من أولويات النساء في سورية المطالبة بحق حرية الإجهاض، لأنهن أساساً يفتقدن حق حماية الحياة، خلافاً للجدل الحاصل في الولايات المتحدة بشأن حق الإجهاض كأحد مفردات الحرية الشخصية المضمونة دستورياً، (والمختلَف على حقيقة ورود نصّ دستوري ضمناً يمنحهن هذا الخيار)، واعتبار قرار المحكمة الأميركية العليا إلغاء هذا الحق اعتداءً على حرية خيارهن بذلك، وعودة بالبلاد إلى ما قبل سبعينيات القرن الماضي، وربما اللافت هنا أنّ قرار المحكمة لم يجامل رغبة الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي وصف ما ذهبت إليه المحكمة "يعيد البلاد 150 عاماً إلى الوراء، وأن صحة النساء وحياتهن في بلاده صارت في خطر".
رهن النظام السوري الدولة بكل مقدراتها البشرية والطبيعية والاقتصادية لحلفائه منذ بدء الثورة السورية عام 2011، مقابل الحفاظ على حكمه لها
نعم، لا تملك السوريات رفاهية قبول الإجهاض أو رفضه، وهو ليس على قائمة أولوياتهن، في الوقت الذي يغيب فيه حقهن في حماية قدرتهن على ممارسة أمومتهن، وإشباع بطون أولادهن. هذا الحق الذي تضمنه الدساتير السورية بكلّ متغيراتها، ومنها دستور 2012، الذي تنص المادة 20 منه "تحمي الدولة الأمومة والطفولة، وترعى النشء والشباب، وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم". وهنا يمكن أن نذكر المحكمة الدستورية في سورية المعاد تشكيلها بمرسوم رئاسي (15 مايو/ أيار 2022) أن دورها مراجعة القوانين واللوائح التنفيذية التي تخالف ذلك الدستور، وهي، على كثرتها، يمكنها أن تحوّل مناصبهم الفخرية إلى ورشة عمل لا تهدأ، فهل يجرؤون (وهم المعينون من الأسد) على مخالفة (أو إبطال) ما وافق عليه، أو اقترحه أو أسهم المقرّبون منه في تمريره بين سطور قوانين سورية وتعليماتها التنفيذية.
لا يحتاج تعريف دمشق بأسوأ مدينة للعيش في العالم إلى تقارير بريطانية، وإعلام أميركي وعالمي، فدمشق عاصمة الدولة التي يتنافس من بقي من شبابها على هجرتها، ويتفاقم عدد فقرائها ليشكّلوا أكثر من 90%، وتعد من أولى الدول على قائمة الأكثر هشاشة وخطراً، ما يعني أن الخبر هو بدهية يتعامل معها السوريون بالتساوي مع بديهياتٍ كثيرة في حياتهم دوناً عن آخرين، فحيث تحضُر الحرب، ويغيب حقّ الحياة الآمنة، والتعليم والحريات وفرص العمل والاستشفاء والإعلام الموثوق، ويتهالك الدخل المالي ليصبح عبئاً على عدد أيام الشهر، وتصبح الجريمة حدثاً يومياً عادياً، وتمشي الناس فوق مقابر أولادها الجماعية في وقتٍ تنتظر عودتهم، وتعيش على أمل معرفة مصيرهم، يصبح التقييم الدولي تحصيل حاصل، ورفاهية خبر غير منتظر، وهو مجرّد تعميق جرح المأساة السورية وإعلان أنّ الأسوأ لا يزال في الطريق إلينا.
رهن النظام السوري الدولة بكل مقدراتها البشرية والطبيعية والاقتصادية لحلفائه منذ بدء الثورة السورية عام 2011، مقابل الحفاظ على حكمه لها، فاستثمرت إيران وروسيا ما تبقّى من بناه التحتية الناجية من دمار الحرب ومقدّراته الاقتصادية، وربطته بتعاقداتٍ طويلة الأجل على استثماراتٍ مستقبلية تكبل فيها قدرة سورية على النهوض لعشرات السنين، ما يؤجّل أيّ عملية تنمية وطنية يمكن التعويل عليها في حال الوصول إلى أي حلٍّ سياسي بين النظام والمعارضة، من دون أن تكونا حاضرتين أو مسيطرتين على الحلّ وتوابعه، واستخدام هذا الحل المأمول ورقة تفاوض على طاولة محاصصاتهما الدولية، في الملفات الداخلية والخارجية العالقة، والتي تزداد تعقيداً مع تقلّص فرص نجاح عودة إيران إلى الاتفاق النووي من جهة، والحرب التي تخوضها روسيا على أوكرانيا من جهة أخرى.
بينما تتعاظم ثروة الأسد والمقرّبين منه داخل سورية، حسب تقارير دولية، يتكبّد معظم سكان سورية مشقّة تأمين لقمة عيشهم
يحمّل إعلام النظام السوري العقوبات الخارجية مسؤولية تردّي أوضاع السوريين المعيشية، متجاهلاً واقع الفساد المستشري بين المسؤولين والمقرّبين من النظام وأفراد عائلة الأسد التي تطفو فضائحها على السطح بين الفينة والأخرى، وكذلك "مسؤولية السوريين الذين وضعوا أموالهم في المصارف اللبنانية التي انهارت" حسب تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد، ومعظمهم من المقرّبين منه، وشركاء المسؤولين في السلطة، وبينما تتعاظم ثروة الأسد والمقرّبين منه داخل سورية، حسب تقارير دولية، يتكبّد معظم سكان سورية مشقّة تأمين لقمة عيشهم، ويعيش نحو أربعة ملايين سوري آلام المجاعة بكلّ عوالمها، وصولاً إلى تخلّي الأمهات عن أطفالهن، لعجزهن عن توفير أبسط مقومات درّ الحليب في صدورهن.
أن تعيش بين عالمين، أحدهما هو الأسوأ "دمشق"، والآخر هو الأفضل عالمياً "فيينا"، في التصنيف لمستويات العيش بين مدن العالم، لا يعني أنك نجوت من الأول بالانتقال إلى الثاني، فحياة اللجوء هربا من الموت الفيزيائي أو المعنوي في دمشق، إلى ظل الحياة الآمنة في فيينا أفضل مدينة للعيش، هي حياة مثقلة بالماضي والحاضر الذي يعيشه أهلُك هناك، ومتعثرة أمام فرص نسيان مأساتهم أو تجاهلها، من فقدانهم حقّ التعبير برفاهية التظاهر، إلى فقدانهم القدرة على تأمين قوت يومهم، وبين الأولى والثانية، عدّاد موت السوريين مع قضيتهم يتسارع يوماً بعد آخر، على يد النظام، وعلى يد معارضيه تحت مسمّياتهم المختلفة، ولعلّ المضحك المبكي موت أفراد عائلة النظام الفاسد، بعضهم بسلاح بعض.