في مآلات التجاذبات الدامية بين حزب الله وإسرائيل
تمارس إسرائيل استعراضَ قوّتها التدميرية ضدّ حزب الله في لبنان، عبر ضرباتٍ قويةٍ وقاسيةٍ ومفاجئةٍ له، ولبنيته العسكرية، ولبيئته الحاضنة في لبنان، واضعةً تهديدات أمينه العام حسن نصر الله، وتوعّداته المتكرّرة لإسرائيل، أمام اختبارات صعبة، وإحراجات شعبية، إذ لم تستطع عمليات القصف المُتبادَل، الجارية بين الطرفَين على الحدود منذ قرابة عام، أن ترجّح كفّة ميزان القوى (ولو قليلاً) لجهة الحزب الغارق في خسائره، على عكس ما صوّره إعلامه منذ بدء عملياته لإسناد حركة حماس بعد عملية "طوفان الأقصى".
ولعلّ إسرائيل تعمّدت شنّ مثل تلك الضربات المفاجئة، غير المعروفة، أو غير المسبوقة، التي تأتي من خارج "قواعد الاشتباك" المعهودة، بخاصّة المتمثّلة بتفجير وسائل وشبكات الاتصال التي يحملها منتسبو الحزب، أعقبها قصف مبنىً من سبعة طوابق وتدميره، في معقل حزب الله في ضاحية بيروت (20 سبتمبر/ أيلول الجاري)، واستهداف اجتماع قياديين فيه، ما أودى بحياتهم، وكان ضمنهم إبراهيم عقيل القائد العسكري البارز، وهو أرفع شخصية عسكرية استهدفتها إسرائيل، خلال حربها على غزّة، بعد اغتيالها فؤاد شُكر (أواخر يوليو/ تمّوز الماضي) بالطريقة ذاتها، لتأكيد قدراتها في توسيع طيف عملياتها وصولاً إلى عمق جغرافية حزب الله. وكانت تلك العمليات هي الطريقة التي انتهجها الحزب لإسناد المقاومة في غزّة، وقد ردّت عليها إسرائيل بقسوة، في محاولة منها لردع الحزب، وبهدف تقويض أيّ محاولة منه للربط بين جبهة الشمال مع حزب الله، وجبهة الجنوب مع حركة حماس، مع منعكساتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في ما يخص الطرفَين.
منذ اغتيال إسرائيل صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية لبيروت، باتت تستهدف مربّع حزب الله الأمني استهدافاً مباشراً
أيضاً، تهدف إسرائيل من خلال تلك العمليات تأكيد ذاتها دولةً رادعةً، لاستعادة ثقة الإسرائيليين بها، وتعزيز ادّعاءاتها عن جيشها الذي "لا يُقهر" في العالم، وأيضاً هي تحاول من خلال ذلك إضعاف التهديد الذي يُشكّله حزب الله في الشمال، بخاصّة مع الضغط المتأتّي من الإسرائيليين النازحين من سكّان المناطق الحدودية، الذين يرفضون العودة إلى بيوتهم في ظلّ هذا الوضع، وهي نقطة باتت تُشكّل إجماعاً في إسرائيل، أو يمكن القول إنّها جسّرت بعض الخلافات بين قادتها، بل تُشكّل أحدَ أكثر الأولويات التي تتبناها الحكومة الإسرائيلية أهمّيةً.
إضافة إلى ذلك، أن هذه الحرب تهدف إلى تقويض صدقية حزب الله، الذي طالما ادّعى أنّه أنشأ حالةً من توازن الردع، وقواعد الاشتباك مع إسرائيل، وأنّ تلك الدولة باتت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، وأنّها "أوهن من خيوط العنكبوت"، وأنّ صواريخه الـ150 ألفاً، تهدّد حيفا وتلّ أبيب، وكلّ المدن الإسرائيلية من الشمال إلى الجنوب. وقد يجدر التذكير بأن إسرائيل، منذ اغتيالها القيادي في "حماس"، صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية لبيروت (يناير/ كانون الثاني 2024)، باتت تستهدف استهدافاً مباشراً مربّع حزب الله الأمني، إضافة إلى استهدافها بوحشية البقاع اللبناني، والجنوب، الذي دمّرت عدداً كبيراً من قراه وبناه التحتية، وقتلت ما استطاعت من مدنيين من دون أيّ رادع أخلاقي. ولعلّ أقسى ضربة إسرائيلية تلقاها الحزب الله قبل الجولة الحالية، هي تلك التي أودت بحياة قائده العسكري فؤاد شُكر (31 يوليو/ تموز 2024)، الذي سبق بساعات قليلة عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران (1 أغسطس/ آب 2024)، الأمر الذي رأى فيه الحزب تحدّياً كبيراً له، بخاصّة أنّ إيران هي راعيته وداعمته، وهي قائدة محور "المقاومة والممانعة".
ومعلوم أنّ هذا الاستهداف الإسرائيلي لإيران لم يكن فريداً من نوعه، إذ كانت إسرائيل قصفت قنصليتها في دمشق، وقتلت أحد أهم أركان الحرس الثوري الإيراني في تلك الغارة (إبريل/ نيسان 2024)، كما استهدفت أنشطتها النووية، وسبق أن اغتالت عديداً من قياديي الحرس الثوري الإيراني. وفي السياق ذاته، كانت إسرائيل قد أغارت قبل أسبوعين (9 سبتمبر/ أيلول) على منشأة عسكرية كبيرة ومهمّة في مصياف، بواسطة قوات برّية وجوية، في عملية لافتة، وفريدة من نوعها، أدّت إلى مقتل 27 شخصاً، بين مدنيين وعسكريين، من جنسيات إيرانية ولبنانية وسورية.
بعد هذه الجردة لمحصّلة التجاذبات الدامية والمدمّرة بين إسرائيل وحزب الله، بات الحزب في وضعٍ صعبٍ ومُعقَّد، يتطلّب أجوبةً ليس من نوع أنّ إسرائيل ستواجه العواقب، أو أنّ الردّ سيأتي في المكان والزمان المناسبين، فهذه العبارات لم تعد تفيد شيئاً، بل باتت موضع تندّر، إذ لم يثبت أنّ أيّ ردٍّ كان متناسباً مع هول الضربات الإسرائيلية وقسوتها، من إيران، ولا من حزب الله، ولا من الحوثيين أيضاً.
باتت البيئة الحاضنة لحزب الله في لبنان اليوم في موضع ذعر، وقلق، وتساؤل عن حجم انكشافها المريع إزاء الضربات الإسرائيلية، التي باتت تطاول كلّ بيت ودكّان وحارة، وكلّ شخص، وعن حجم الاختراقات داخل بنية حزب الله، الذي فقد قادة عسكريين، مجرّبين ومتمرّسين في القتال بخاصّة في سورية، بالنظر إلى توقّف المقاومة ضدّ إسرائيل منذ 20 عاماً.
تسعى إسرائيل إلى تقويض صدقية حزب الله، الذي طالما ادّعى أنّه أنشأ حالةً من توازن الردع مع إسرائيل
القصد أنّه آن لحزب الله، الذي تنازل أمينه العام وأقرّ بتفوق إسرائيل تكنولوجياً، أن يدرك أنّ الصراع مع إسرائيل يتطلّب أكثر من مُجرَّد قوات مقاتلة ومؤمنة، فهذه قد تفيد في معارك مع بيئات شعبية معارضة مدنية أو مسلّحة بالمعدات البسيطة، وهو ما فعله في سورية، وليس مع الجيش الإسرائيلي الذي يمتلك القوّةَ التكنولوجية والعلمية والعسكرية والاقتصادية، وفوقها إمداداتٌ مفتوحةٌ من الولايات المتّحدة، التي ثبت أنّها مُستعدَّة لدعم إسرائيل بلا حدود، بل ضمان أمنها، وهو ما حصل في تبهيت الردّ الإيراني الباهت أصلاً إبّان إفشال قصفها إسرائيل بالصواريخ (إبريل/ نيسان الماضي).
قد يفيد حزب الله، الذي أكّد أمينه العام أيضاً أنّ الصراع ضدّ إسرائيل يحتاج إلى صراع بالنقاط وبالتدريج وإلى حكمة، أن يتخلّى عن ادّعاءاته، وغطرسته المضرّة، بترويج أوهام مثل "وحدة الساحات"، وإمكان زلزلة إسرائيل، وهو أمر للأسف لا يحصل إلّا في الخطابات. ما يفيد حزب الله، ويفيد لبنان، أن يترجم حزب الله ذلك، بالمصالحة مع الواقع، ومع العالم، ولا سيّما المصالحة مع الشعب السوري، بالخروج من سورية، وأيضاً الخروج من حالة أنّه دولةٌ داخل دولةٍ في لبنان، ومن أنّه مُجرَّد ذراع إقليمي لدولة خارجية يهمّها السيطرة والهيمنة على المشرق العربي فقط، لأنّ خراب سورية والعراق ولبنان لا يخدم إلا إسرائيل، كما بينت التجربة، وكما بيّن السلوك الإيراني في تلك الحرب، وطوال العام الماضي.