كُلُّنا مذنبون
لا يمكننا أن نغضّ النّظر. لا يمكنكم أن تغضّوا النظر. أجل، أجل، جميعنا معنيّون. جميعاً. هذي جرائم تقع بشكل يوميّ تحت أنظارنا، بحقّ بريئات. نساء يُقتلن على أيدي "فحول" عائلاتهنّ. مرّة هو الوالد أو الشقيق اللذان يعمدان إلى "غسل عارهما" بكلّ فخر ووحشية. وفي أغلب الأحيان هو الزوج الذي أخذ "بنت الناس" وأقسم أن يصونها في السرّاء والضرّاء، في حين أنّه لم يفعل سوى الإمعان في إذلالها وتعذيبها، وصولاً إلى نزع روحها من بين أسنانها. "أخذها" يُقال بالعاميّة، وفي هذا القول إشارة إلى الاستملاك والاستحواذ الذي يختصّ بالأشياء لا بالكائنات البشرية. المرأة كائن مُشَيَّأ في المجتمعات كافة. الغربُ، وبرغم ما أحرزه من تقدّم وتحرّر، لا يشذّ عن القاعدة. من أين يأتي هذا الشعور، هذي القناعة بالأحرى، أنّ امرأتك هي "شيْئُك" الذي يمكنك رميه، كسرُه، دهسُه وتعذيبه وحتى قتله. مَنْ منحك هذا الحقّ؟ متى وكيف دخلت لوثةُ القتل والأذية تلك، عقلَك وعاثت فيه كل ذلك العنف وتلك القسوة؟
لوائحُ طويلة، أسماء لا تُحصى. من كل المشارب والأعمار. لو وضعنا عبارة "ضحايا العنف ضد المرأة" على محرّك غوغل، ستهولنا نتائجُ البحث، أرقاما وحوادث ومناطق جغرافية يُسجّل فيها تزايدُ نسبة العنف وارتفاعُ أعداد الضحايا من النساء، وذلك حتى في الديمقراطيات التي قد نظنّها مستثناةً من هذه القوائم. رَجْم وقتل وتعذيب وتحرّش واغتصاب، عنفٌ بربريّ، بدائيّ، كأنّه لم يعرف تطوّرا أو تقدّما بشريا، كأنّ الحضارات لم تلامسه، كأنّ القوانين والشرائع والأحكام وأصول التعامل بين البشر لم تمرّ به أبداً. عنفٌ خالصٌ، بارد، وحشيّ، يتحرّك وينمو في فقاعة خاصة، في كَوْنٍ موازٍ.
في لبنان، أخيراً، قضت هناء خضر (مواليد 2001)، وهي أمّ لطفلين وحامل في شهرها الخامس، بعدما أشعل زوجُها فيها قارورة غاز تسبّبت لها بحروق بالغة التهمت جسدَها. قيل إنّ زوجها، وهو سائق تاكسي يعاني من الضائقة المالية التي تعاني منها البلاد بأسرها، أقدم على حرقها بسبب خلافٍ حول إجهاض جنينها. قيل أيضاً إنّ والدته وشقيقته لم تحرّكا ساكناً للدفاع عن الصبية التي رفضت أن تجهض، أو لتخليصها من بين براثن الوحش. هناء أمضت أياماً في المستشفى تعاني آلاماً مبرّحة، قبل أن تفارق الحياةَ منضمّةً إلى قافلة أخواتها اللُّبنانيات ممّن سبقنها إلى القبور: سارة الأمين، ولطيفة قصير، ورلى يعقوب، وميمونة أبو العائلة، ونسرين روحانا، ورقية منذر، وشيرين عساكر، وزهراء القبوط، وندى بهلوان، ورنا بعينو، وريان إيعالي، وظريفة زيدان، وزينة كنجو، وليليان علوه... كما انضمّت إلى رفيقاتها الأخريات المصريات والفلسطينيات والسوريات والعراقيات والأردنيات واليمنيات والتونسيات والمغربيات والهنديات والسويديات والألمانيات والفرنسيات والأميركيات والـ...
القصصُ تتشابه، والمآسي تتكرّر، وردودُ الفعل لا تعدو الشَّجْب والاستنكار على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، هذا حين لا تكون مسايِرة فتجد للقاتل تبريراً كذاك الذي يُبرّئ المجرمَ عند ارتكابه ما اتُفق على تسميتها جرائم شرف وجرائم شغف وجرائم جُنون وفقدان سويّة عقلية، أو حين تهاجِمُ الضحيةَ وتعتبرها المسؤولة الأولى عن مصيرها "لأنّها لو احتشمت وتحجّبت، لما كانت..." كما حصل مع الضحية المصريّة نيّرة أشرف.
والحال، لست أدري كيف ستتصرّف الفتيات من الآن فصاعداً حين سيصددن من يودّ التقرّب منهنّ بالقوة؟ وماذا نفعل، نحن أمّهات الصبايا وأهاليهنّ، حين يخطر لنا أنّ شاباً ما قد يُعجَب ببناتنا، وأنّ مجرّد رفضهن له قد يعرّضهن للذّبح أو الطّعن أو القتل بالرصاص، كما حصل أيضاً مع الأردنية إيمان مؤيد رشيد (18 عاماً)، أو مع المصرية سلمى بهجت (22 عاماً)؟ ماذا نفعل حين نزوّج بناتنا لرجالٍ قد يعنّفونهنّ ويضربونهنّ ويقتلونهنّ عند أدنى خلاف؟ ماذا نفعل حين تكون النساء، أمهات وزوجات وطالبات ومسنّات وطفلات، مجرّد أهداف سهلة لنوازع العنف والأذية والتعذيب والقتل؟ ماذا نفعل؟ بل ما تُرانا فعلنا ونحن نشهد يومياً على جرائم بربرية تحدث تحت أنوفنا هنا وهناك؟
حين لا تتحوّل جرائم القتل بحق النساء إلى قضايا رأي عام، حين لا تُنتج عواصفَ من ردود الفعل ومسيرات الاستنكار، ولا تؤدّي إلى اجتراح قوانين صارمة تحمي النساء وتعاقب القتلة والمجرمين، فهذا يعني أنّنا كلّنا متورّطون، كلّنا مذنبون.