كيف نعيد المايونيز إلى أصله؟

24 ديسمبر 2020

ياسر صافي)

+ الخط -

لم أقرأ شيئا للروائية البريطانية هاري مانتل، ولا أعرف إن تُرجمت رواياتها أو بعضها إلى العربية، لكنني قرأت لها مقولة جميلة منشورة في زاوية "قالوا" في عدد سبتمبر/ أيلول 2020 من مجلة العربي. أعجبتني، واحتفظت بها بعد أن قرأتها عدة مرات في ملاحظات هاتفي. "ما أن تنتهي من أي رواية ستعجز عن فصل الواقع عن الخيال فيها. تصبح محاولتك أشبه بمحاولة إرجاع المايونيز إلى الزيت وصفار البيض اللذين صنع منهما". طبعا هي تتكلم بصفتها روائية، ولعل معظم الروائيين يفكّرون مثلها، إذ يصعب عليهم فعلا فصل الواقع عن الخيال في رواياتهم، حتى لو أرادوا أو كتبوا تنويهاتٍ تفيد بذلك، أو تشير إليه من بعيد أو قريب في مقدمات رواياتهم. لكن هل يفكّر القارئ كذلك أيضا، بعد أن ينتهي من قراءة رواية ما؟ 

لم أكتب رواية، ولست من هواة كتابتها، ولا أظن أنني أجيد هذا النوع من الكتابة التي تتطلب صبرا لا أملكه، في رسم الشخصيات، وتحديد مصائرها في النهاية. ولكنني كنت عاشقة لقراءتها، قبل أن يصيبني النزق في السنوات الأخيرة منها، فلم أعد أقرأ من الروايات سوى ما لا يزيد عن الأربع أو الخمس روايات في العام. ومع هذا، ما زلت أحتفظ بعلاقات طيبة مع معظم الشخصيات التي تعرفت عليها في روايات قرأتها طوال عمري .. لقد أصبحت تلك الشخصيات قريبةً من واقعي الذي أعيشه، فاحتلت مكانتها في ذاكرتي، وحجزت حيزها من انشغالي بمن أعرف، كما لو كانت شخصيات حقيقية. وربما لا أبالغ كثيرا إن قلت إن بعض تلك الشخصيات التي تعرّفتُ عليها في مرحلة مبكرة من قراءاتي، وعاشت معي سنوات طويلة، اندغمت فعلا في واقعي، حتى أصبحت أتشكك كثيرا، وأنا أحاول أن أضعها على رفّ الخيال الإبداعي في مكتبة الذكريات المزدحمة في وجداني. 

هل يفعل كل القرّاء ذلك فعلا؟ سألت صديقة تهوى قراءة الروايات، ولم تفقد شغفها كما فعلت، فاستغربت من طريقتي في التعاطي مع الشخصيات التي أجاد كتّابها صناعتها إبداعيا إلى الدرجة التي جعلتني أعاملها كما لو كانت شخصياتٍ حقيقيةً، تعرفت عليها ذات يوم، ورحلت عنها أو رحلت عني وحسب. قالت الصديقة إن الأمر كله بالنسبة لها ينتهي بمجرّد أن تنتهي من قراءة الرواية، حتى لو كانت الرواية واقعية جدا، فقد صُنعت الروايات لتسليتنا، نحن القراء، لا لتحميلنا مزيدا من مسؤولية العلاقات الشخصية. 

كلامها منطقي جدا، لكن اختلافي معها بشأنه بقي في مكانه، ما جعلها تؤمن بأنه السبب الحقيقي في فقداني شغفي بقراءة الروايات خلال السنوات الأخيرة. ومرّة أخرى، وجدت أن كلامها معقول، فهل امتلأت حياتي بتلك الشخصيات شديدة التنوع إلى درجة الاختناق، ما أشعرني بحاجتي إلى التخفّف أو على الأقل غلق الباب أمام تدفّق مزيدٍ منها إلى هذه الحياة المزدحمة بالآخرين؟ ربما.. انحزت لذلك التفسير عندما تذكّرت محاولاتي المستمرة في التخلص من شوائب العلاقات الهامشية في حياتي طوال الوقت، وخصوصا أنني كلما أنهيتُ مرحلةً في تلك المحاولة شعرت بخفّةٍ تجعلني أكاد أحلق فرحا بوفرة الحياة أمامي، على الرغم من كل صعوباتها. 

صحيحٌ أنني فشلت في فصل الزيت عن صفار البيض في قنينة المايونيز التي تشبه حياتي، ولكن هذا الفشل جعلني أمتنع عن تناول المايونيز وإبعاده عن سفرة طعامي، حتى لو توفر مجانا. وهذا، على صعيد آخر، اعتراف بأصل المايونيز ومعرفة مكوّناته كل على حدة، فهي على الأقل مكتوبةٌ دائما على القنينة، ويعرفها كل من يتناول المايونيز من قنينته.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.