كيف لا نصير مثلهم وحوشاً؟
الصور الآتية من غزّة لا تُطاق. التعليقات المتكاثرة في وسائل الإعلام الغربية التي تدين ما جرى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ولا تريد أن ترى القتلَ الممنهج للمدنيين والأطفال، أو ما سبق من سرقة وطرد وحصار واستقواء خلال 75 سنة، لا تُحتمل. الأسئلة المنحازة الاتّهامية والمحاكمات التي تقام لمن لا يعلن ولاءه الفوري أو مبايعته الكاملة للسردية الإسرائيلية المعتمدة غربا، والمفروضة قسرا على الجميع، تقلب الأمعاء. الإدراك العميق باليُتم الفلسطيني وبتخلّي العالم بأجمعه، يجعل واحدَنا يكفر بالإنسانية ومبادئها الكاذبة.
ومع ذلك، ثمّة خوف وقلق عميق من الانزلاق إلى بربريةٍ موازيةٍ عندما تُستفزّ في كلّ منّا مشاعرُ الكراهية والحقد والرغبة العميقة بالانتقام، وأحيانا حتى بالقتل. ينبغي لنا أن نقاوم هذه النزعة فينا، وأن نبقي على مبادئنا وإنسانيتنا لأننا في جانب الحقّ، وبهذا، نحن في موقع أفضل منهم بكثير. أعرف أن كثرا سيقولون إن هذا كلامٌ في غير أوانه، إن النقد الذاتي لا يجد مكانه هنا، أي حين الدماءُ تسيل سواقي، والأطفال يهيمون قتلى ومشرّدين مفزوعين. لكنّي مع هذا سأقول. أنا لم أفرح بمشاهدة المدنيين من الإسرائيليين يُساقون كالأغنام، وإن كنت أتفهّم سنوات الغيظ والقهر المكتوم الذي يعانيه أهلنا في فلسطين. فإذا كان لا بدّ مما خطّطت له "حماس" ونفّذته، وهو أمر قابل للنقاش نظرا إلى نتائجه، فقد كنت أتمنّى لو أن حماس هاجمت الثكنات العسكرية تحديدا، وأسرت جنودا وضباطا ضالعين في القمع والقتل والأسر. لا لتبييض صورتنا إزاء العالم، وإنما إزاء أنفسنا، لأن تحييد المدنيين واجب، كائنا من كانوا وإلى أي جهة انتموا. ومع ذلك، يستدعي كلامي صورة الرجل الفلسطيني الذي أجاب عن أسئلة أحد الصحافيين الغربيين قائلا: "لا يوجد مدنيون في إسرائيل فوق سن الثامنة عشرة". وبالفعل، فالخدمة العسكرية في إسرائيل إجبارية للرجال (36 شهرا)، والنساء (24 شهرا) . ومع ذلك، كان ثمّة عجائز وأطفال كان يمكن تحييدهم.
في أحد اللقاءات المخصّصة لقضايا الشرق الأوسط، طرحتُ سؤالا بشأن مسألة لطالما أرّقتني، إذ كيف يمكن لأبناء الضحايا وأحفادهم أن يتحوّلوا، بعد كل ما عاناه أهاليهم، إلى جلادين؟ كان سؤالي حول فائدة استخدام الفلسطينيين منطق الضحية لمساءلة ضمير المجتمع المدني في إسرائيل، والبناء على كونهم كانوا بدورهم، ذات يوم، ضحايا. أذكر أن سيدة إسرائيلية وقفت لتجيبني بحدّة، وأنها حتى سخرت من سؤالي ومن جهلي بالمجتمع الإسرائيلي، حيث قالت: "لا يوجد مجتمع مدني في إسرائيل، وإنما مجتمع معسكر يتبنّى السردية الإسرائيلية الرسمية من دون أي تشكيك فيها"... وبالفعل، أعادني ذلك إلى أكثر من حوار وكتاب ومقالة قرأتُها، يتوقّف فيها النقدُ الذاتي الإسرائيلي عند الرقم العجائبي، 1948. فهذا التاريخ هو السحر الذي يُسقِط كل قناع، ويمحو كل تعاطف مع القضية، ويرفع الحائط الذي يسدّ كل نقاش ويوقف أيّ حوار، مُرجعا كلّا إلى خندقه. لماذا لا يريدون الاعتراف بما اقترفوا وارتكبوا؟ ما فعلوه جريمةٌ ينبغي الاعتراف بها والاعتذار عنها. ومن هنا فقط، ربما، جازت المصالحة... ولكن، حتى الآن، يرفضون الاعتراف بأن إسرائيل موسومة أبدا بوصمة خطيئةٍ أصلية لا يمكن محوها.
كان الزميل وائل الدحدوح واقفا قبالة الكاميرا عندما تلقّى على الهواء خبر مقتل زوجته وابنه وابنته وحفيده في غارة إسرائيلية على منطقةٍ في غزّة كانوا قصدوها لأنها "آمنة". عبارة وحيدة قالها وهو يبكيهم منحنيا فوق جثامينهم: "بينتقموا منا بالولاد؟ معليش"... ثم قام ودفن أفراد عائلته وعاد إلى عمله. أتأمّل في ملامحه. مثلي، سوف يفكّر كلُّ مشاهِدٍ: لو كنتُ مكانه، ماذا كنت سأفعل؟ وستكثر في رأسه سيناريوهات الانتقام على أنواعها، وسيتحوّل الحقدُ وشعور العجز في داخله، إن لم يُقدم على الانتقام، إلى غرغرينا متوحّشة تأكل روحه وعظمه.
ليس وائل الدحدوح هو فقط عاد إلى عمله. لم يستسلم، واستمّر يشهد ويغطّي ويراسل، رغما عن أنوف القتلة. وائل يعلّم العالمَ ويعلّمنا درسًا في المقاومة، وهذا ما تكرُهه إسرائيل، لأنه، في آن، يتفوّق أخلاقيا على وحشيّتها، ويبثّ فيها رعبا.