كيف حدث الانهيار الأفغاني الكبير؟

19 اغسطس 2021
+ الخط -

لم تتخيّل الإدارة الأميركية أن الجيش الأفغاني الذي استثمرت فيه عشرين عاماً من التسليح والتدريب وأكثر من 80 مليار دولار سينهار أمام مقاتلي حركة طالبان بأسلحتهم البدائية، ومن دون أن يطلق رصاصة واحدة. سيقال الكثير عن الأسباب التي أدّت إلى هذا الانهيار الذي فاجأ حتى "طالبان" نفسها، فلم تتوقع مثلاً أن مزار شريف، بأمير حربها وغريمها التاريخي، الجنرال عبد الرشيد دوستم، ستنهار قبل وصول قوات "طالبان" إليها. كذلك في اللحظة التي بدأت "طالبان" تحضر للحوار حول انتقال السلطة، تشرع لها أبواب كابول من دون مقاومة، ويفرّ رئيسها المنتخب، أشرف غني، خارج البلاد.

لم ينهر الجيش الأفغاني لأسبابٍ فنيةٍ تتعلق بالتسليح والتدريب، والذي يتفوّق على مقاتلي "طالبان" بهذه الجوانب، وهو الأمر الذي سبّب كابوساً للإدارة الأميركية التي تعي أن هذا التسليح المتقدّم الذي قدّم ثمنه دافع الضرائب الأميركي سيؤول إلى أيادي "طالبان". لم تنهر الحكومة والجيش الأفغانيان بتاريخ 15 أغسطس/ آب 2021، ولكن الانهيار الفعلي حصل في فبراير/ شباط 2020، عندما فاوضت الإدارة الأميركية "طالبان" وحدها، وبمعزل عن حلفاء واشنطن في الحكومة الأفغانية الذين لم يُدعوا إلى طاولة المفاوضات، ولم تكن مطالبهم على أجندة التفاوض الأميركي - الطالباني. اختارت إدارة دونالد ترامب أن تفاوض "طالبان" على القضايا التي تعنيها هي، ضاربة بعرض الحائط النتائج المترتبة على شركاء الولايات المتحدة في الحكومة الذين عملوا معهم عقودا.

باعت الإدارة الأميركية شركاءها، الحكومة الأفغانية، ثم جاءت متباكية على عدم تصديهم لـ"طالبان". ها هو وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، يعبر عن "خيبة أمله الشديدة" لعدم قتال الجيش الأفغاني "طالبان" كما أن الرئيس بايدن نفسه يصرح قائلاً إن الجيش الأميركي لن يقاتل في حربٍ لا يريد الجيش الأفغاني نفسه الحرب فيها من أجلهم هم. هي ليست المرّة الأولى التي تتخلّى فيها الإدارة الأميركية عن حلفاء لها، وتبيعهم إلى الخصوم مقابل تفاهماتٍ حول أجندات محدّدة خاصة بها، فقد فعلت هذا عندما تفاوضت إدارة أوباما مع إيران حول برنامج الأخيرة النووي عام 2015، ثم صرح أوباما: لقد تفاهمنا مع إيران وعلى السعودية أن تقوم بالشيء ذاته.

ما زاد الطين بلة وأطلق شرارة الانهيار هو هروب القادة وأمراء الحرب خارج البلاد، حتى قبل أن يصل مقاتلو "طالبان" إلى مزار شريف أو كابول

لقد شعرت الحكومة الأفغانية وجيشها بأنّهما تُركا لقمة سائغة لمقاتلي "طالبان" الذين لم يستطع حلف الناتو هزمهم على مدار عقدين. وهنا يدخل العامل النفسي ذو التأثير الكبير على حالة الانهيار. لقد وقعت الحكومة الأفغانية وأمراء الحرب التابعون لها في أتون حرب نفسية ورهبة تشكلت عبر السنوات الماضية عن شراسة مقاتلي حركة طالبان، وكيف أن قوات "الناتو" التي كان يفترض أن تهزم الاتحاد السوفييتي تتقهقر أمام هؤلاء المقاتلين بأسلحتهم البدائية، وتتسابق هذه القوات (البريطانية والفرنسية وغيرها) في الهروب من ساحة المعركة.

ولربما يكون السبب الأهم الذي أدّى إلى حالة الانهيار أن المشروع الأميركي للتغيير في أفغانستان كان وبقي أميركياً، ولم يحدث أي تبنٍّ حقيقي له من الأفغان أنفسهم. وهذا يثير تساؤلات كبيرة بشأن مدى فاعلية التغيير من الخارج في مقابل ولادة مشروع للتغيير ونموه من الداخل نفسه. ولأن مشروع التغيير خارجي، صاغه استراتيجيو وزارتي الدفاع والخارجية الأميريكتين، ولم تتبنّه القوى الداخلية عقيدة وانتماءً، فسمح ذلك لنمو طفيلياتٍ كثيرة في الطبقة السياسية في أفغانستان، كان همها فقط تحقيق منافعها الذاتية، فازداد أمراء الحرب توسّعاً وشراهة، وانتشر الفساد ومعها القطط السمان من سياسيين ومتعاقدين من الباطن. لقد تعامل الجهاز البيروقراطي الأفغاني مع مشروع التغيير الأميركي مصدرا للتكسّب، وتعامل معه أفراد الجيش على أنه مصدر رزق ووظيفة، من دون أن يكون لذلك ترجمة ليصبح مشروعاً وطنياً ينتمي إليه الفرد ويدافع عنه بنفسه وماله.

شعرت الحكومة الأفغانية وجيشها بأنّهما تُركا لقمة سائغة لمقاتلي "طالبان"

وأخيراً، ما زاد الطين بلة وأطلق شرارة الانهيار هو هروب القادة وأمراء الحرب خارج البلاد، حتى قبل أن يصل مقاتلو "طالبان" إلى مزار شريف أو كابول، فقد ساهم ذلك في حالة الانهيار من ناحيتين. الأولى، انهيار للهرمية التي بني عليها الجيش الأفغاني، بحيث أصبح الجنود من دون قادة، ولا يوجد من يوجّه ويعطي التعليمات للمواجهة. والثانية، والأهم، أن الروح المعنوية للأفراد لا بد لها أن تنهار عندما ترى قادتها يفرّون خارج البلاد، تاركين وراءهم الغالي والنفيس لينجوا بأنفسهم من بطش "طالبان" المتخيّل.

ضمن كل هذه المعطيات، كان الانهيار حتميا. والأهم أنه لا ينبغي أن تكون هناك أي مفاجأة في ذلك، تحديداً لاستراتيجيي الإدارة الأميركية ومخططيها الذين كان يفترض أنهم يعرفون طبيعة المشروع الخارجي الذي يحملونه، وكذلك نوعية القيادة السياسية الطفيلية التي تعاملوا معها على مدار عقدين، ثم يتسابق الساسة الأميركان للتعبير عن استغرابهم وخيبة أملهم من عدم قيام الجيش والحكومة الأفغانية بالقتال.

72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
إبراهيم فريحات
أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا وسابقاً في جامعتي جورجتاون وجورج واشنطن ومعهد بروكينجز. من مؤلفاته "وساطة الصراع في العالم العربي (جامعة سيركيوز- الولايات المتحدة 2023) و"إدارة صراع فوضوي" (جامعة أدنبرة في بريطانيا 2020) و"ثورات غير مكتملة" (جامعة ييل في الولايات المتحدة 2016).
إبراهيم فريحات