كم عزيزة قطرة الدم في غزّة

كم عزيزة قطرة الدم في غزّة

12 ديسمبر 2023
+ الخط -

في الحروب تُحصد الأرواح وتُهدر الدماء، في وقتٍ تكون فيه كل قطرة دم ضرورية، إذ إن غالبية الإصابات، إن لم تكن كلها، جسيمة ينجم عنها نزوف وخسارة كبيرة من الدماء، وقد يكون تعويض الدم الفصل بين حياة المصاب أو موته.
للدم مكانة عليا في حياة الشعوب، قيمية وثقافية، ومنها شعوبنا العربية، فرابطة الدم من الروابط القوية بين الأفراد والعائلات والقبائل والشعوب (الدم ما بصير مَيّة)، على الرغم من أن منطق الحال والأحوال، والتطوّر العلمي، خصوصا باكتشاف الخريطة الجينية، وتاريخ البشرية الطويل الحافل بالغزو والحروب والتنقل والتزاوج والاحتلال والاستيطان، وغيرها، جعل الدم يختلط عبر الزمن، ولم تعد هناك مجموعاتٌ بشريةٌ نقية السلالة إلّا في ما ندر. ومع ذلك تبقى لرابطة الدم سطوتها وقوتها، وبسبب مكانة الدم في الوعي الجمعي، لا يخلو حديثٌ منه، تبنى عليها أمثال شعبية، يُحمّل صفات الناس وطباعهم، ويصنفون في شخصيات، فهناك خفيف الدم، وثقيله، وهناك من دمُه بارد ودمُه حامٍ، وهناك الشخص السمج، أي أن دمه لزج أو "سميك"، وهناك من يوصف بأنه "بلا دم"، أو دمه فاسد، وهناك من يقال عنه إن دمه أزرق، وغيرها من صفاتٍ تؤطر بها شخصيات البشر، وتوكل إلى الدم بصمتها.

الدم الذي شكّل أسطورته تاريخيًّا يسفح ويسفك على تراب غزّة، وكل نقطة دم غالية معنويًا وماديًّا

ولا يخلو الأمر من ربط الدم بالقيم الجمالية أيضًا، يقال في جمال الفتاة "خدودُها حمرا متل الدم". أما لناحية الخجل والحياء فيقال "احمرّ من الخجل"، أو عن قليل الحياء "ما بوجهه دم"، أو لمن استبدّت به نوبة غضب أو هلع "نشف دمه". بل ارتبط بمفهوم الشرف، شرف القبيلة بشكل عام، بمفهومه الواسع كما جاء في بيت الشعر "لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى يراق على جوانبه الدم"، وهو دليل العفّة والعذرية لدى الفتاة عند شعوبٍ عديدة. بل للدم مكانة تاريخية تمتد إلى غابر الأزمان، ففي أسطورة الخلق البابلية خلق الإنسان من تراب ودم، وهو يسفح في محارب الآلهة، وتتفنّن الشعوب في تشكيل رمزيته واختراع الطقوس المتعلقة بهذه الرمزية، وطقس الأضحية من أقدم الطقوس وأكثرها شيوعًا لدى البشرية، وفي ثقافتنا يحتلّ الدم مكانة متعددة المستويات، حتى في الأدب والشعر جرى ذكره كحامل تيمة ما، أو عنوان لقصة أو رواية.
الدم الذي شكّل أسطورته تاريخيًّا يسفح ويسفك على تراب غزّة، وكل نقطة دم غالية معنويًا وماديًّا، فالدم، بتعريف بسيط، سائل يجري في عروق الجسم، يقدّر حجمُه بخمسة ليترات، يتكوّن من عناصر رئيسية، البلازما وكريات الدم الحمراء وكريات الدم البيضاء والصفيحات الدموية. أما البلازما، التي تحمل كل عناصر الدم، فتتكوّن من ماء وأملاح وبروتينات مهمة في الجسم، يشكل الألبومين العنصر الرئيس فيها، وهو ما يمنع السوائل من التسرّب خارج الأوعية الدموية إلى الأنسجة، كما أنه يحمل بعض الهرمونات التي تفرزها الغدد لتساعد الأجهزة في القيام بعملها، كما توجد بروتينات أخرى تشكّل الأجسام المضادّة، كالغلوبولينات المناعية، تواجه الميكروبات والفيروسات والفطريات والخلايا السرطانية وغيرها، في تعزيز القوة الدفاعية والجهاز المناعي في الجسم، عدا البروتينات التي تشكّل أهم لبنات عملية تخثر الدم، والضرورية لوقف النزيف.

بنوك الدم أحد أهم أركان المنظومة الصحية، في حالتي السلم والحرب، ففيها تتم عملية جمع الدم وحفظه في ظروف آمنة تضمن عدم فساده

هذه ببساطةٍ لمحةٌ عن الدم ومكانته الحيوية، وانطلاقٍا من تعدّد عناصره، وتعدّد وظائفها الحيوية، وأهمية الكتلة الدموية عند الشخص السليم، فقد تطوّرت الصناعات الدموية كثيرًا، منذ إنشاء أول بنك دم بعد الحرب العالمية الأولى، في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، بعد تجارب كثيرة قبل ذلك التاريخ، جرت في محاولة لنقل الدم، كانت بدايتها النقل مباشرة من دم المتبرّع إلى جسد المصاب، ثم محاولات تبريده وحفظه، ثم تجريب مانعات التخثر، وغيرها من تجارب كثيرة كانت تراكم خبرات في هذا المجال، إلى أن وصلنا إلى بنوك الدم والصناعات الدموية.
اليوم تعد بنوك الدم أحد أهم أركان المنظومة الصحية، في حالتي السلم والحرب، ففيها تتم عملية جمع الدم وحفظه في ظروف آمنة تضمن عدم فساده، بعد أن تكون عيّنات الدم قد خضعت لتحاليل محدّدة للتأكد من الفصيلة وعامل الريزوس وخلوّه من العوامل المعدية، ويوضع في ثلاجات بدرجة حرارة 4 مئوية. والطلب على الدم دائم في الحياة العادية للبشر، بعيدًا عن الحروب والنكبات، ما دامت المستشفيات تعمل وتؤدّي المنظومات الصحية دورها في علاج المرضى وحماية الحياة، وقد شاع في سورية منذ عقود أن يكون هناك شرط التبرّع بالدم عند التقدّم إلى وظيفة، أو التخرّج من الجامعة، أو الحصول على شهادة السواقة، وغيرها، وكان معظم الأفراد يلجأون في الغالب إلى الحصول على إعفاء من هذا الشرط بطريقة أو بأخرى كلها تعتمد على الفساد والرشوة، على الرغم من أن المتبرّع كان يحظى بـ"علبة بسكويت". ولا بد من الإشارة إلى تناقضات أفراد شعوبنا، إذ عندما يتطلب الأمر تبرّعًا بسبب إنساني يهرع الناس تلقائيًّا إلى البنوك من أجل التبرّع.
كلّ ما قيل أعلاه عن الدم وقيمته ورمزيته والأساطير حوله لا يساوي شيئًا أمام قطرة دم لطفل من غزّة تُهدر، أو قطرة أخرى يحتاجها طفل، لا يساوي شيئًا أمام جريح يحتاج فقط إلى تعويض دمه المفقود لإنقاذ حياته، لا يساوي شيئًا أمام نزيف امرأة تعسرت ولادتها، أمام وليد ينزف لعدم حصوله على جرعة فيتامين K، ولا وجود لدم يعوض نزيفه.

إذا طالت الحرب أكثر، وطال معها الحصار والجوع، ربما يُصاب معظم الباقين في الحياة بفقر الدم، ومشكلات نقص عناصر الدم

أمام هذا الواقع الهمجي والحرب الوحشية التي تشنّها إسرائيل منذ شهرين على غزّة، وأرقام الضحايا الذي يفوق التصوّر، وقصف المستشفيات واستهداف المنظومة الصحية، وقطع الوقود، وتعثر وصول سيارات الإسعاف، وغياب الكهرباء ما يعطل البرادات، كيف لضمير فيه ومضة من الحياة ألّا يسأل ماذا عن الدم الذي يُسفك بحقد ويُسفح بغزارة تمتصّه الأرض ويغور بين ركام البيوت المدمّرة، بينما عدد الجرحى يفوق الوصف، ويفوق قدرة الإمكانات الصحية على تدبير الأمر، بينما الدم يهدر برخصٍ وحقد؟ كيف يتدبّر أطباء غزّة المنهكون أمر الجرحى، وهم بأمس الحاجة إلى تعويض دمهم النازف؟ مؤكّد أن الباقين في الحياة لا يبخلون بدمائهم من أجل جرحاهم، لكن ما السبيل إلى استغلال هذا الكرم النبيل بينما تعاني المستشفيات والمنظومة الصحية من فقدان المواد الطبّية والمخبرية؟ كيف تجرى التحاليل على عيّنات الدم إذا توفرت، وكيف تحفظ؟ وكيف يتم استثمارها في صوْن الحياة في ظل هذا التوحش الذي لم تشهده البشرية، وأمام أعين العالم كله؟
تعدّ بنوك الدم، أو يجب أن تعدّ، من أهم المرافق الصحية في مناطق النزاع. على الجهات المسؤولة والقوى الفاعلة والمجتمع الدولي دعمها وصيانتها وحمايتها وتأمين مستلزماتها، لأنها، ببساطة، شريان صحّي حيوي، بقدر ما هو الدم نسغ الحياة في الجسم، وضروري لوظائف الأعضاء والأجهزة.. 
إذا طالت الحرب أكثر، وطال معها الحصار والجوع، ربما يُصاب معظم الباقين في الحياة بفقر الدم، ومشكلات نقص عناصر الدم، وأهمها البروتينات، وليس هناك بنوك دم ولا صناعات دموية لعلاج الحالات المرضية المحتملة.
تأخُذنا مشاهد القصف والدمار والضحايا والهاربين من الموت، وتستبدّ بنا المشاعر. وفي الوقت نفسه، هناك تفاصيل كثيرة يمكن تصنيفها بأنها جرائم مستترة، مجرّد التفكير بها يجعل المرء ينقم على هذا العالم المصاب بعمى البصيرة، وتهتك الضمير.