كل الأيام لأمّهات غزّة
ما أشدّ ظلمنا لو قرّرنا أن نحتفل بأمهات غزّة في يوم واحد من العام، ما أشدّ قبحنا لو قدّمنا لهنّ تهاني مكرّرة جوفاء مثل أي تهنئةٍ لأيّ أمّ من دون أن نضيف مع التهنئة تربيتة كتفٍ حانيةٍ مثل جناح فراشة وحضن دافئ، رغم برودة الخيمة وباتساع الكون وكفّاً عظيمة تمسح الدمع الساخن المتساقط والمنهمر بلا توقّف والمتجدّد مع ساعات الليل، حيث يعمّ هدوء مترقّبٌ في المحيط، وحيث لا تفتر طائرات الموت عن التحليق بحثاً عن فريسة جديدة.
يجب أن نتخلّى عن الظلم والقبح معاً، حين نقرّر أن نمنح الأمهات عموماً في زمن الحرب يوما للاحتفال، أو أن نكرّمهن بفعالية أو حتى مظاهرة، فكل الأمّهات في زمنٍ تدور فيه آلة الموت بجنون هن المتفانيات حتى آخر رمق للحفاظ على فلذات أكبادهن، حتى لو أقدمت إحداهنّ على إبعاد طفلها عنها، مثلما فعلت أمٌّ لطفل سوري، حيث ألقته بقلبٍ متقافز الجنبات، مثل قلب أم موسى في القطار باتجاه حدود سلوفاكيا، لكي تنقذه من ويلات الحرب في أوكرانيا، وهي تعلم أنه سيبتعد عنها قاطعا وحده مسافة 1500 كيلومتر، ولكنها تحبّ هذه القطعة من الروح وتريد لها الحياة. أو مثلما عرضت أمٌّ غزّية رضيعتها للتبنّي على المارّة في أحد أسواق غزّة لأنها باختصار لا تريد لطفلتها أن تموت، وتريد لها الحياة حتى بُبعدها عنها.
الأمهات في زمن الحرب يتحوّلن فجأة إلى مُغامراتٍ وقائدات، وإن كانت قد غابت الكاميرات عن قصص ووقائع خلال حرب غزّة الطاحنة، فهناك قصصٌ لا تنسى مثل قصّة الأم التي دفعت بطفلها في اللحظة الأخيرة باتجاه طريق النجاة فيما تلقّت بصدرها رصاص الغدر، وهي ترفع الراية البيضاء. ومن المؤكّد أنها قد أغمضت عينيها للمرّة الأخيرة وهي تراه يبتعد لينجو حتى وهي تبتعد عنه إلى الأبد.
وعليك أن تشعر بمقدار ظلمك إن قلتَ إن الأم في غزّة بحاجة لباقة ورد أو رسالة شكر، فكلُّ أم في غزّة هي شلالٌ من التضحية، وبحرٌ لا ينضب من العطاء منذ زمن بعيد، وليس اليوم. وليس من خلال ما نقله الإعلام عن نماذج الأمهات المضحّيات اللواتي ينزحن بأطفالهن الرّضع مشيا على الأقدام ساعاتٍ، واللواتي يدفعن العربات البدائية التي تحمل بعض المتاع وأكثر من فلذة كبد في طرق وعرة حرثتها آلة الحرب مرّات ومرّات.
الأم الغزّية إنْ يطيب لنا أن نطلق عليها هذا اللقب هي التي تسطّر التاريخ لأنها مبدعة ومبتكِرة فلا أم يمكن أن تبدع وتبتكر آياتٍ وصوراً دالّة عن حبّ الأبناء والتفاني والانصهار من أجل إنقاذ حياتهم ما استطعن إلى ذلك سبيلا.
وإذا كانت المرأة قد جبلت على الأمومة منذ صغرها، فالأم الفلسطينية، وخصوصاً الغزّية تتعرّض حالياً لحرب متسلسلةٍ لمنعها من الإنجاب، وحيث ذكرت دراسة حديثة أن الأمهات في غزّة يتعرّضن لحملة تعرف باسم الحؤول دون الإنجاب في جماعة معينة. وحسبما أشار أحدث تقرير للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان فإن المرأة في غزّة وخلال هذه الحرب تتعرّض لأقسى أنواع القمع والتعذيب، لكي لا تتمكّن من النجاة بحملها، وذلك ضمن خطط الإبادة الجماعية للشعب في غزّة، فالحامل في خيم النزوح ومراكز الإيواء تعاني من سوء التغذية وانعدام الرعاية الصحية، ما يهدّد حياتها وحياة جنينها، وفيما تتعرّض مع أسرتها لمشقّة الحصول على الطعام، رغم ثقل حركتها فهي تتعرّض لمخاطر الولادة بعيداً عن المشافي، فحالات الولادة في الخيام وعلى قارعات الطرق وفي البيوت المحاصرة كثيرة. وقليلاً ما تنجو منها الأم ومولودها، وليس أشدّ حسرة على أيّ أمٍّ كإنجاب مولود ميت، والأشدّ أيضاً أن تربّي طفلاً جميلاً وأبيض و"شعره كيرلي" ثم تفقده بسبب الحرب. ولكن وفي لحظات الأمل في النجاة فهي تصفه دوماً، وفي كل موقف، كما تراه عين قلبها بأجمل الأوصاف التي تتناقلها الألسن، تعبيراً عن جمال الأطفال، فلله درّك يا أمّ الأمهات يا أمّ الأيام، ويا صاحبة كل الأعياد.