حقيبة واحدة لا تكفي

13 نوفمبر 2024

(عبد عابدي)

+ الخط -

الدقائق القليلة التي كنت أقف خلالها بين الرّكام في منزلي في شمال غزّة، وحيث تعرّض للقصف في اليوم الرابع من هذه المقتلة، كنت أعيش أصعب مواقف حياتي، أو بالأدقّ أنني وُضعت في حالة اختراع خياراتٍ من أجل أن نهرب، أو من أجل خطوةٍ ما زلت أندم أنني أقدمتُ عليها، لأن فداحة نتائجها قد أقامت مقتلة أخرى في داخلي تُميت كل شيء، حتى بتّ أشبه الميّت الحي، لأن الإنسان، وفي اختصارٍ بسيط لتكوينه، هو مجموعة من الذكريات. وفي حال فقدها، يصبح مثل لعبة طفلٍ عابث، أفرغ تجويفها فلم تعد تضيء ولا تغنّي ولا تتحرّك، هي مجرّد مجسم صامت، يركله الطفل بقدميه، وتوشك الأم أن تلقي بها في أقرب حاوية.

الدقائق القليلة التي كنتُ أقف فيها بين ركام المنزل، فيما كانت الأخبار تذيع في كل مكان، أوامر التوجّه إلى جنوب وادي غزّة، وفيما كنت أصرُخ، وأنا أتعثّر بأشياء مهشّمة، وببقايا أثاث وأجهزة، بأولادي أن يجمعوا ما خفّ وزنُه وغلا ثمنه. وكنت أقصد بغلاء الثمن ما يحتاجون إليه أكثر، فيما كان غلاء الثمن بالنسبة لي غلاء هذا الشيء إلى قلبي وروحي. ولذلك وقفتُ صامتة أنظر بعيني إلى الركام الذي ارتفع مثل هضاب تكاد تكون أطول مني، وأحاول أن أنبش لأحصل على أشياء مهمّة، فيما كنت أردّد للأولاد بصوتٍ مرتجفٍ تخالطه الدموع: إن هي إلا بضعة أيام وسوف نعود، وسيكون لدينا وقتٌ كثيرٌ لننبش عن كل أشيائنا الغاليات.

كان سائق الأجرة القروي البسيط، الذي ينهب الأسفلت نهباً، ما بين شمال القطاع وجنوبه، قد أطلق إنذاره الأخير لي، حيث قال: أمامك نصف ساعة حتى أصل، لقد أوصلت عائلةً إلى مدينة رفح، وسوف أوصلكم في أقل من نصف ساعة، لأني أطير بسيارتي وأسابق الطائرات التي لا تتوقف عن إطلاق الصواريخ.

نظرتُ حولي مرّات عديدة، حتى شعرت بدوار، وأنا أفكّر فيما يمكنني أن أحمل من بقايا هذا البيت، الذي يحكي حكاية عمري مع أولادي، ماذا يمكنني أن أترك لأواسي نفسي أن هذا الشيء غير مهمّ. وركلت مقعداً تهشّم نصفه بقدمي، وسمعتُ ضحكة أولادي ترنّ فوق باقي المقاعد المهشّمة.

مشيتُ باتجاه بقايا مطبخي الصغير الدافئ، وأمسكت فنجان شاي ذهبي اللون، وهو الذي تبقى من إخوته الستة، والتي تناثر زجاجها حوله، ونظرتُ إليه وتأملته، وتذكّرت أنه يكبر أكبر أولادي عمراً، وتذكّرت أن جارتي الفقيرة في بيت عائلتي قد أهدت هذه الفناجين الستة لي، وظلت على حالها أكثر من ثلاثين سنة، وكلما رأيتها تذكّرت أيامنا الجميلة وقت حصاد شجرة الزيتون في باحة بيت أهلي، والنكات التي كنا نتبادلها خُلسةً من أمي، حيث تزجُر جارتنا الراحلة بتأنيب أنه لا يجوز أن تتحدّث بهذه النكات أمام الفتيات الصغيرات.

وضعت الفنجان الوحيد في حقيبة، ولففتُه بقطعة من الملابس، ثم هتفتُ مطلقة الإنذار الأخير للأولاد: لم يتبقّ كثير من الوقت، حاولوا أن تنتقوا أهم الأشياء، وقبل أن أكمل عبارتي كان كل واحد قد حمل حقيبة متخمة بأشيائه، ونزلوا تباعاً وبصعوبة، باستخدام الدرج المهشّم، وتركوني وحيدة بين الأنقاض، فنظرت حولي للمرّة الأخيرة وهمست إلى نفسي: عليّ أن أنقل هذا كله لأنني لا يمكنني أن أختار، وانطلقت الدموع بحرية من عيني، وبدأتُ أجمع ألبومات الصور وبعض الملابس، ونسيتُ أن أحمل بعض معلباتٍ ابتعتُها، على اعتقاد أننا سنبقى في شمال غزّة حتى ينتهي هذا الجنون، وهكذا غادرنا شمال غزّة منذ سنة. وكلما تابعت صمود أهله وإصرارهم على عدم النزوح إلى جنوب القطاع، عضّتني أنيابُ الندم، لأنه كان لديهم وقتٌ كثير لكي يكتشفوا أن الحياة بدون بيت هي الموت. وأنا اليوم بلا حياة، لأن البيت ليس مالاً سوف يعوّض، هو الحياة، وأنت تبنيه مع لحمك ودمك، ولا يمكنك بأيّ حالٍ أن تجمعه في حقيبةٍ، فهي حتماً لن تكفي.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.