من يداوي قلب الطبيب؟
يمكنك هذه المرّة أيضاً، وليست آخر مرّة، ما دامت هذه الحرب المجنونة باقية دائرة الرّحى، أن تقول إنّ هناك أطباء يتجاوز دورهم تشخيص المرض ووصف الدواء، ففيما يقوم أيّ طبيب في العالم بتطبيب المرضى، ثمّ يخلع رداءه الأبيض، ويغادر إلى بيته بمجرّد أن ينتهي دوامه، فهناك أطباء قد تحوّل المستشفى بمرضاه، عندهم إلى بيت وأهل، حيث تجاوزت مهمّة الطبيب علاج المرضى إلى رسائل لا تكتب إلا بماء الذهب، لو أردنا أن نمنحها بعض الحقّ، وهناك رسائل تقف مكتوف الأيدي عاجزاً عن وصفها، وأنت تراها بأمّ عينك، وتنبهر وتتساءل: أيّ إنسان هذا الذي يواجه بأقلّ الإمكانات، وبصدرٍ عارٍ، واحداً من أعتى الجيوش، وأكثرها شراسة في العالم، ويرفض أن يترك مستشفاه المهدّم، ومرضاه الضّعفاء، الذين يوشك أكثرهم على الموت، ولكنه يحاول أن يمدّ يده المنهكة ليخفّف عنهم، وفيما يفعل ذلك، ويرفض مغادرة المكان الذي يهدّد الجنود المحيطون به بنسفه فوق رأسه، ولكنّه يظلّ ثابتاً وقوياً، وفيما يحاول أن يبقى كذلك، هناك من يشقّ الطريق المهدّمة وسط الدمار الساحق، حاملاً له فلذة كبده، مضرّجاً بدمه، ويضعه تحت قدميه في صمت تجاوز بلاغة أيّ كلام.
أيّ صبر، وأيّ رباطة جأش تملّكا هذا الرجل المنهك، الواقف على قدميه ساعاتٍ لا تعدّ، والمحروم من الطعام والشراب، إلّا ما يقيم الأود ويمسك الرمق، أيّ وجع حاول أن يداريه، ولكنّ دموعه خانته، وهو يرى فلذة كبده في رسالة بائنة من العدوّ، بأنه يحاربه في أعزّ ما يملك، لرفضه الاستسلام ومغادرة المستشفى، فإذا الصبي أمامه قتيل، وإذا هو في مصيبة أخرى غير مصيبة الفقد، أنّه لا يعرف أين سوف يدفن ابنه، بعد أن أحاط الجنود المستشفى وأطبقوا الحصار عليه، وهو يعرف أيضاً أنّهم سوف يدخلون باحة المستشفى لا محالة، وينبشون كلّ شبر من الأرض الرمليّة المحيطة بالمباني، ولذلك فقد تملّكته حيرة العجز، وأظهرته كما الميت الذي يقف على قدمين، وهو يصلّي صلاة الوداع على ابنه الذي ربّاه سنين من التعب والفرح، فكلّما كبر قليلاً كان يفرح كثيراً، والآن هو يبكي كثيراً لأنّ آباء غزة باختصار، لا تدوم أفراحهم بفلذات أكبادهم.
بكى الدكتور حسام أبو صفيّة، وهو يصلّي الصلاة الأخيرة على ولده، وأبكى قلوبنا، ولهجت ألسنتنا له بالدعاء، وطلبنا له من الله الصبر والجلد، فيما كان ولده مسجّى أمامه، وفيما كان صوته المختنق بالدموع يمزّق قلوبنا، ويضرب بسياط من نار ضمائر أمّة نائمة.
أوجعنا أكثر وأكثر، مشهد الدكتور أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان، أحد المستشفيات التي ظلّت صامدة في شمال القطاع، الذي يتعرّض للإبادة الجماعية، وهو يبحث عن مكان يواري فيه ابنه الثرى، وفيما كان يستمع لمقترحات من مرافقيه الذين حاولوا أن يسمعوه بعض كلمات العزاء، والتي بدت واهية أمام حزنه وألمه، كان يلفّ في باحة المستشفى باحثاً عن مكانٍ يدفن فيه الفتى إبراهيم، حتّى قرّر في النهاية أن يدفنه بجوار سور المستشفى الداخلي، وكأنّ هذا المكان سوف يكون بعيداً عن أعين القتلة، وربّما لن يخطر ببالهم، أنّ بضعاً من روحه تستند على بعد أمتار من سطح الأرض، على سور المستشفى الذي يحاول أن يبقى قائماً، ولكن لا أحد يعرف إلى متى سيبقى كذلك، وآلة الموت تقترب أكثر.
أمّا أنت، فتسند رأسك إلى جدار خيبة لا توصف، وتهمس لنفسك مرّة أخرى أنّ هناك أطباء يداوون، وهناك أطباء يكتبون قصصاً من العطاء الممزوج بالصمود في أقسى اللحظات، وهؤلاء الأطباء لا ترى أكثرهم إلا في غزة، وقائمتهم طويلة، تبدأ من الدكتور محمد حميد أبو موسى، الذي استقبل طفله يوسف "الأبيضاني" الحلو، وشعره "كيرلي" ضمن القتلى، وهو على رأس عمله، ولا تنتهي بالدكتور الشهيد عدنان البرش، والمعتقل المنكّل به محمد أبو سلميّة، فهناك قائمة لن تنتهي من صنّاع التاريخ المشرّف، وسط كلّ هذا الظلام المطبق على القلوب قبل الأبصار.