كليوباترا نتفليكس ... ماذا بعد؟
أخيرا، بات بإمكاننا الكلام بجدّية وبشكل ملموس، فها هو مسلسل "الملكة كليوباترا" في أجزائه الأربعة قد عرض أخيرا على منصة نتفليكس بعد ما أثاره من كلام ونقد ودعوات إلى وقف عرضه وآراء متضاربة وردود فعل متباينةٍ حول خيار أن تكون بطلته ذات بشرة سوداء، بدلائل تاريخية وعكسها، وحقائق علمية وعكسها. إلا أن المؤكّد أن كليوباترا السابعة هي الأخيرة في سلسلة العائلة المقدونية البطلمية التي حكمت مصر حتى سقوطها عام 30 قبل الميلاد، وأن مؤسّس الأسرة هو بطليموس الأول، أحد قادة جيش الإسكندر الأكبر الذي غزا مصر سنة 332 ق م. أما غير المؤكّد فهو كل ما يتعلّق بمظهرها، حيث إننا لا نعرف مثلا ما كانت أصول أمها وجدّتها، كما نجهل هل كانت فعلا امرأةً فائقة الجمال كما حوّلتها الأسطورة، أم سيدةً ذات مظهر عاديّ وحضورٍ آسر وعلم وحنكة وذكاء.
في مطلق الحال، لا يقدّم لنا المسلسل الكثير ولا يكشف شيئا مما لا نعرفه أصلا. بل ويمكن القول حتى إنه يتعثّر في رسم ملامح شخصيةٍ معقّدة مثل شخصية كليوباترا، وأنه، بإصراره غير المفيد وغير المقنع على جعلها ذات أصولٍ أفريقيةٍ بحتة، ببشرةٍ سوداء وشعر أجعد، إنما يتّخذ خيارا لا واعيا بجعلها أكثر من عادية، بل ربما حتى "فقيرة" إذا صحّ التعبير، مظهرا كما مضمونا، حيث تغيب عن الصورة كل علامات البذخ، أو العظمة، أو الرفاهية التي اتّسمت بها السلالات الفرعونية في قصورها وطرق عيشها، والتي كان يمكن اللجوء إليها كوثائق موجودة بوفرة في التراث الفرعوني العريق.
أكثر من ذلك، يقدّم لنا المسلسل وعودا يتناساها ويغفلها كلّما تقدّم. فها نحن في البداية نتعرّف إلى كليوباترا مراهقة في مكتبة الإسكندرية، تقرأ المخطوطات فيما هي تأكل الفاكهة، فيما يروي لنا صوت منتجة العمل جادا بينكت سميث (زوجة الممثل ويل سميث)، عن براعة كليوباترا، ذكائها الخارق، وشخصيتها القوية، يدعم قولَها هذا جامعيون وبحّاثة ومتخصّصون يتدخّلون طوال المسلسل الذي يجمع الوثائقي إلى الروائي (دوكوفيكشن). نسمع هذا كلّه، ولا نلمس شيئا منه في كيفية تعاطي الأجزاء الأربعة مع شخصية ملكةٍ تفتقد إلى الحضور والجاذبية مظهرا ومحتوى. فلا هي كما رسمتها الأسطورة والأقاويل فائقة الجمال ليقع قائدان رومانيان عظيمان في هواها منذ النظرة الأولى، ولا هي كما يودّ المسلسل تقديمها: لامعة الذكاء، متّقدة الذهن، كثيرة العلم والاطّلاع.
هذا، وبرغم مصداقية المداخلات والآراء العلمية للمختصّين والخبراء، ثمّة ما يثير الريبة أحيانا في أقوالهم، كأن تؤكّد البروفيسورة شيلي هالي أن أمها قالت لها: "لا يهمّني ما يقولونه لك في المدرسة، كليوباترا كانت سوداء"! وذلك من دون أن يعمد المسلسل حتى إلى مناقشة هذا الخيار، أو أن يقرنه بدلائل ثابتة وعلمية. أكثر من ذلك، يُخبرنا المختصّون عن ميزات شخصيات استثنائية غيّرت وجه التاريخ، ثم لا يظهر في تجسيدها أيٌّ من هذا، بل يبقى معظمها مسطّحا لا روح فيه، لا يزيد تجسيدُها على الشاشة المشاهدين معرفةً أو حسن اطّلاع.
أخيرا، إلى جانب الضعف التقني والفني في معالجة المشاهد الخارجية والداخلية على السواء، فإن المسلسل لم يبلغ للأسف الهدف الرئيس الذي يُفترض أنه أُنتج لتحقيقه: تعريفنا بملكة استثنائية، وتصويب صورتها المتخيّلة والشائعة التي لم تر فيها أكثر من امرأة لعوب. فقد أثبتت أكثر من دراسة حديثة، من بينها كتاب بعنوان "كليوباترا - حياة"، من تأليف الأميركية ستايسي شيف (جائزة بوليتزر)، وكتاب ثان بعنوان "كليوباترا ملكة مصر الأخيرة" للباحثة الأثرية والمختصّة بتاريخ مصر، الإنكليزية جويس تيلديسلي، أن كليوباترا السابعة كانت مقدامة، جريئة، ذكية، خبيرة بقوانين الضرائب، وبليغة تتحدّث، بحسب ما ذكر المؤرّخ بلوتارك، ثماني لغات على الأقل، إضافة إلى المصرية القديمة التي كانت أوّل من أتقنتها من ضمن سلالة بطليموس.