كطفل... في الثانية بعد المائة

20 أكتوبر 2022

(فخري شهاب)

+ الخط -

كعادتي... أمام كل موت جديد يباغت وجودي أحاول أن أعود إلى المعنى الأول للحياة. أنا أعيد التفكير بكل شيء، بالزمن وهو يمضي، وبالنهاية التي لا بد منها بالتأكيد. أسميها النهاية من دون يقينٍ مطلق بمعنى الكلمة ولا بقدرة اللغة أحيانا على ترجمة ذلك الشعور الخفيّ الذي ينتابنا في لحظات الدهشة الكبرى، فلا نعود قادرين على تحديد ماهيته بدقة.

قبل أيام، فقدت شخصاً رحل عن عالمنا هذا عن عمر ناهر العامين بعد المائة، وهو عمر استثنائي في حياة البشر، ألهمه أسئلة وجودية كثيرة كان يتشارك فيها معنا نحن الذين كنا حوله بصفات كثيرة.

كنت أسميه بابا فخري شهاب، منذ لقائي الأول به قبل عقدين تقريبا. كان يومها قد بدأ العقد الثامن من عمره بشعور النهاية. لكن سيرته الحافلة بكل ما يمكن أن يعيشه البشر من تجارب خفّفت ذلك الشعور عنه. كان أستاذا في ثلاث جامعات عالمية عريقة هي أوكسفورد وبرنستون وهارفارد، ورغم أنه بدأ حياته بدراسة القانون، وأكملها بدراسة الاقتصاد، إلا أنه لم يترك شغفه الشعري بلغات ثلاث: العربية والإنكليزية الفرنسية.

كان صوت بابا فخري شهاب الواهن الضعيف، ولكن أيضا الواضح الحنون، في آخر مكالمة لي معه إشارة إلى صورة الاكتمال. لم يستطع أن يخفي هشاشة المعنى الكامن وراء هذه الحياة كلها. سألني إن كنتُ قد سمعت المقطوعة الموسيقية التي أوصاني بسماعها، فقلت له ليس بعد. قال أريد أن أسمع رأيك بها قبل أن أموت. لم آبه لعبارته لفرط تكرارها في أحاديثنا منذ عرفته، فتجاوزتها شاكيةً له بعض ما أمرّ به من مشكلاتٍ شغلتني عن كل شيء، وعن الموسيقى أيضا، فعاد إلى أمنيته المستحيلة، والتي كان يردّدها دائما أمامي حلا لمشكلتي مع الهوية والجنسية. "نتبادل الهويات والجنسيات"؟ كان يقولها جادّا، فآخذه إلى المزاح؛ لا يكون التبادل عادلا ما بين الوجود والعدم يا بابا، لكنني لا أمانع في أن نتبادل بحصيلة القراءات والمقطوعات الموسيقية، فينهي المحادثة؛ كل حصيلتي ستذهب إلى العدم قريبا. لكن وعيه بهذا القرب الوجودي نحو العدم الجسدي لم يكن ليثنيه عن استمراره في التجريب. كان يمضي كطفل مندهش من اكتشافاته المتوالية في حياته التي امتدّت بتاريخها وجغرافيتها طويلا وواسعا نحو الكتابة، لتدوينها بلغته العصية على التلاشي.

كان قد سئم من الكتابات السياسية والاقتصادية، ففرّ الى الشعر الذي وجد فيه ملاذا، كما وجده بعباداته الخاصة. لا أدري بماذا فكّر في لحظاته الأخيرة، لكنني أعرف أنه كان دائما منشغلا بانتظار حل اللغز الكبير في تلك اللحظات المتوقعة.

لم أكن أفهم كيف وفق هذا الخبير الاقتصادي المرموق، والذي كان له الفضل الأول بظهور العملة الكويتية الوطنية الأولى "الدينار" بعيد الاستقلال، بين لغة الأرقام ولغة الشعر وفلسفة الوجود، لكن يبدو أن هوايته الأثيرة بالتأمل وقراءاته الواسعة في كل المجالات تقريبا أورثته تلك القدرة الكبيرة على التوليف بين متناقضات كثيرة. أما الشعر فكان واحته الأثيرة في النهايات المستطابة.

كتب في واحد من نصوصه الجميلة:

أرتج على ذات يوم

فجفّ ينبوع قصيدي

وتوارت قريحتي خجلى

وراء ستارة كثيفة من ضباب الهرم .

وفيما أنا فيه من حيرة وأسى –

اكتشفت أن الكون من حولي

قد اكتسى بسكون صمت سماوي عميق!

أترى: هي ثرثرتي التي كانت تعكر صفو هذا السلام السعيد؟

رحمة الله تتغشى تلك الروح النبيلة التي حلقت بين القارّات على مدى قرن، وطوّفت في مدى الأيام الطويلة من دون أن تفقد دهشتها الأولى، ولا قدرتها الأصيلة على البقاء في ظلال الإيمان المطلق بالوجود وخالق الوجود.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.