كاسترو الحوثي
أكثر مِن شهادة تاريخية، بينها إفادةُ الكاتب والمسؤول الأمني الكوبي المنشقّ، رودريغيز مينيار، تشير إلى أن الزعيم الأسبق فيدل كاسترو لم يكن شيوعياً خلال الحرب الثورية الكوبية حتى 1959. مَن برز شيوعياً، فضلاً عن تشي غيفارا، شقيقُه راؤول الذي ورث الحكم عنه بعد نحو خمسة عقود. بقي فيدل متردّداً بين خطّين من رفاقه، خطٍ ثوريٍّ لم يرغب في أن تصبح البلاد ذات أيديولوجيا حمراء، وآخر شيوعي. مالَ إلى الثاني بعد وصوله إلى الحكم. من أهم الأسباب لتبني الشيوعية، أن كاسترو لم يلقَ في الولايات المتحدة الترحيبَ بشروطه. هناك سببٌ حاسمٌ آخر يتعلق بطموحات زعيمٍ ثوري حاول أن يتجاوز حُدود إمكانات بلاده الجيوسياسية فذهب بعيدا.
نجح أحيانا في مشواره خارج إطار جزيرته الصغيرة، وبعيداً عن إمكاناتها الاقتصادية الذاتية المعتمدة حينها على تصدير السكّر. كسبت قواتُه الحرب الأهلية الطويلة (بالوكالة) خلال سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته في أنغولا ضد قوات جنوب أفريقيا. بجهود مخابراته في فنزويلا، حافظ زعيمها السابق، هوغو شافيز، على الحكم في مواجهة العداوات الداخلية والخارجية. لكن بالأخير، ظلت كوبا في وضع سيئ اقتصادياً، معتمدةً بقوة على الدعم المالي السوفييتي، مع بعض النجاحات على المستويين الصحي والتعليمي. ثم انتهى الدعم والقليلُ من النجاحات ليتعزز الانهيارُ الاقتصادي فور تفكك المعسكر الشيوعي. عاد كاسترو إلى الولايات المتحدة، وانفتح اقتصاديا عليها عبر بوّابة السياحة والعملة الصعبة المحوَّلة من المغتربين الكوبيين.
ذهبت أجيال كاملة من الكوبيين سدى. كان طريق كثير من شبانها دائماً ركوبَ لجج البحر بحثا عن حياة في الولايات المتحدة. ثارت كوبا للتخلّص من النفوذ الأميركي ومكافحة فساد العهد الثاني من الرئيس المُطاح، فولغينسيو باتيستا. إلا أن البلاد أُخضعت للسوفييت، وجُعل منها، في نهاية المطافن بلداً محكوما بأنواع جديدة من الفساد، بينها رعايةُ طريق المخدّرات من أميركا الجنوبية إلى العالم. لأن كوبا مدخلٌ للولايات الأميركية المطلّة على خليج المكسيك، كان البحر ممرَّ تلك التجارة، وصارت سلطة هافانا المسهلَ مقابلَ 10% أو أكثر من الأرباح.
الطموحُ العابر للحدود والقائم على تصوّرات أممية هو الدالةُ. إنه البحر الأحمر ومدخله
هذا تاريخ. غير أنه يتكرّر كل مرة، مع تغيير المكان. يبدو أن جماعة أنصار الله الحوثية في اليمن تريد دوراً مشابهاً. المداخل البحرية من جديد السلاحُ. الطموحُ العابر للحدود والقائم على تصوّرات أممية هو الدالةُ. إنه البحر الأحمر ومدخله. هو خليج عدن وبحر العرب، وبالتالي المحيط الهندي. الخط الرابط بين المحيط وقناة السويس يمرّ من هناك. للحوثيين في المكان بعض السلطان. والحرب على غزّة يستثمرها الحوثي جيّدا. الجماعة المسلحة الحاكمة في صنعاء وأجزاء واسعةٍ من شمالي اليمن تريد أن تكون طرفاً في حربٍ بعيدة.
حرب الحوثيين مع التحالف الإقليمي بقيادة السعودية تظهر مجمّدةً راهناً. الاتفاق بين الرياض وطهران المرعي من بكين برّد الجبهات اليمنية. تسعى المملكة إلى رعاية اتفاق شامل في اليمن ينهي الحرب الأهلية والانقسام السياسي الحاد. النجاح من عدمه، في النهاية، رهن المتحاربين الداخليين والداعمين الإقليميين. لا يبدو الحوثي مستعجلاً. العاصمة بيده، والشرعية المناوئة له لا تبدو في أفضل أوضاعها في العاصمة البديلة عدن، لأن هناك صراعا آخر يدور على وحدة البلاد مع الانفصاليين الجنوبيين. كما أن كل تجارب الحروب الخارجية في اليمن أثبتت أنها تشبه، إلى حد كبير، أفغانستان، لا نصر فيها، بل انغماس بلا نهاية. هذه النقطة الأخيرة يدركها الحوثيون، ومن ورائهم داعموهم الإيرانيون. لذا يسعون إلى المضي في صدام من نوع آخر، معركةَ البحر الأحمر وسفنه. مانشيتُه الراهن اعتراض السفن الإسرائيلية، لكن مضمونه أبعد من ذلك.
تروّج الدبلوماسية الإيرانية، منذ بدء حرب غزّة، مقولة إن جماعات محور "الممانعة" تتصرّف مستقلة
هدّد الإيرانيون مراراً بإغلاق مضيق هرمز. لم ينفذوا ذلك. اعترضوا بعض السفن في فترة المناوشات البحرية زمنَ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، غير أنهم يدركون أن ورقة هرمز ستعرّضهم مباشرة للخطر، لذا يلوحون بها فحسب. أما في البحر الأحمر ومضيق باب المندب فلا خطر مباشرا حتى على حليفهم الحوثي. ماذا سيخسر حكّام صنعاء الحاليون من سياسة اعتراض السفن أكثر مما خسروه في الحرب منذ عام 2014؟ لا أحد مستعدٌّ للتورّط في مواجهة مباشرة. الخاسر هو الشعب اليمني الذي يعاني من أحد أسوأ الأوضاع الإنسانية المتواصلة في العالم. بطبيعة الحال، لا تفكر طهران في اليمن، كما العراق ولبنان، بأن يقدّم حلفاؤها نموذجاً مدنياً يحتذى به. لا يقوم المشروع الإيراني الخارجي على ذلك. المشروع قائم على منهجية المواجهة المستمرّة والحرب بالوكالة وتقديم نموذج ثوري يغري "خصوم الإمبريالية". في المحصلة، مثل كوبا، يراد أن تبقى مناطق النفوذ الإيرانية عصيّة على الآخر الأميركي أو غيره، من خلال سياسة التصعيد المستمرّة وتقديم نموذج راديكالي يستفيد بصورة كبيرة من قضايا تمسّ حساسية شعوب المنطقة. الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في مقدمتها، خصوصا أن المحور الإيراني خسر خلال السنوات الماضية كثيرا من رصيده "الأخلاقي" بفعل الحرب السورية والتجييش الطائفي المتبادل، فهذه فرصة ملحوظة لاستعادة بعض ما فُقد.
تروّج الدبلوماسية الإيرانية، منذ بدء حرب غزّة، مقولة إن جماعات محور "الممانعة" تتصرّف مستقلة، وإن الحوثيين يتحرّكون بموجب تصوّراتهم الخاصة. معلوم أن وزارة الخارجية لا مخالب لها ولا نفوذ. الموقف والحقيقة يُحدّدان من دوائر أخرى في مقدّمتها الحرس الثوري. إذ، بدءا من الصحف الإيرانية وانتهاء بتسريبات الصحف الغربية، تعزّز المعلومات ما هو معروف، ن الحوثيين لا يتصرّفون فقط بموجب إرادة طهران. بل تقدّم الأخيرة دعماً لوجستياً واستخبارياً مباشراً لمساعدتهم في راهن التحرّكات البحرية. هنا، بينما تحذّر صحيفة ستاره صبح، الإيرانية من أن فعال الحوثيين تنعكس سلبيا على غزّة وليس إيجابيا، نجد أنه لا يمرّ يوم إلا وتحتفي صحيفة كيهان المقرّبة من المرشد خامنئي بالحليف اليمني، مع الإشارة المتكرّرة، وهنا بيت القصيد، إلى القناعة أن واشنطن غير قادرة على خوض حربٍ مع اليمن. إن خطاب "عشق الحرب مع أميركا وإسرائيل"، كما عبر زعيم جماعة أنصار الله، عبد الملك الحوثي، وعنونت به "كيهان" مقالها في 21 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، هو مانشيت لحربٍ لن تندلع. هو عشق المكاسب السياسية المستهدفة إيرانياً من خلال حليفٍ أعطته مكانتُه البحرية حظوةً ليست للحلفاء الآخرين في لبنان والعراق وسورية. إنه عشق حرب لن تندلع. هو ورقةٌ في أي مفاوضاتٍ مستقبلية.
يبقى الصراع مع إسرائيل، كما كان ستة عقود، موقعاً لمستثمرين سياسيا لم يربح منهم الفلسطينيون
ما يدور في غزّة والحرب عليها، في النهاية، خلفياته الخاصة. جانب منه هو من أجل أرضٍ تنصّ قرارات الأمم المتحدة على أنها محتلة. واستيلاء الحوثيين على سفينة إسرائيلية هنا أو هناك، لا تداعيات كبيرة له فيما يجري في غزّة. الجبهة نائية جغرافياً ومفيدةٌ للاستثمار السياسي الإيراني، مثلما كانت لصالح ليبيا معمّر القذافي وعراق صدّام حسين وغيرهما. المفارقة أن الحوثيين يطالبون دول الطوق بفتح الجبهات لهم، ولم يسألوا حليفهم حزب الله المطلّ على إسرائيل ذلك. هي اللعبة القديمة. كما أن مزاج الأميركيين ليس مع توسيع المواجهة، خصوصا في منطقة، مثل اليمن، ضغطت واشنطن لوقف الحرب فيها. هذا يُدركه الحوثيون والإيرانيون. في النهاية، لم يكسب اليمن من أنصار الله كما من خصومهم الداخليين في حرب النفوذ، سوى مزيد من الفقر والموت وتدمير شبه كامل لشروط الحياة. منهجية نظام صنعاء في البحر استمرارٌ لما سبق، ومزيد من وضع متردٍّ وشديد الخطورة إنسانياً بما لا يقل سوءاً عن حياة أهل غزّة قبل الحرب الجارية، إن لم يزد تردبا.
طهران البعيدة جغرافياً عن البحريْن، الأحمر والمتوسط، تعوّض ذلك بتسخين المنطقتين عبر حليفين مباشرين. يطلب نظام الجمهورية الإسلامية بشدة فرصة أن يصير طرفاً في أي مداولاتٍ بعيدة مكانياً عبر حضوره عن طريق أنصار الله وحزب الله. خسر لبنان استقرارَه النسبي وانهار وضعه الاقتصادي ويعاني اجتماعياً وسياسياً. تنعدم أمام اليمن أيّ فرصة لإنهاء معاناة تاريخية. أما إيران الراديكالية فتربح، هي تريد مقعداً في طاولات لا مكان لها تقليدياً عليها. بالطبع، تعاني إيران الشعبية، فما تربحه منظومة ولاية الفقيه على مدى عقدين ينعكس خساراتٍ على الناس، مدنياً واقتصادياً. ويبقى الصراع مع إسرائيل، كما كان ستة عقود، موقعاً لمستثمرين سياسيا لم يربح منهم الفلسطينيون.
لا ينفي هذا أن اليمن بقيادة الحوثي يبقى، كما كوبا كاسترو، شوكةً في الخاصرة الجغرافية لخصوم كبار بالمنطقة. أما المكاسب فليست لليمن بلداً أو شعباً، كما لم تكن لكوبا أو لبلدان أميركا اللاتينية، بل للإيديولوجيا الإيرانية، مثلما ظلّ الحال لصالح الأيديولوجيا السوفييتية.