حرب أميركا... الإرهاب الداخلي والديمقراطية
ثبات الديمقراطية الأميركية محلّ شك. شكل الحكم هذا، وهو سلاح واشنطن الأنجع أيديولوجياً منذ الحرب الباردة، يلْفى حالةَ عدم يقين بقدرته على الصمود في المرحلة المقبلة. إذا ظفر المرشّح الجمهوري، دونالد ترامب، بالرئاسة مجدّدا، فاحتمال قائمٌ أن تتعرّض البلاد إلى نكسة فيما يتصل بالمفردات الديمقراطية الأساسية. على الأقل يتنامى خوفٌ من عنفٍ داخليٍّ محتمل قبيل الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، أو بعيدها.
جانب من التوجس عكسته ندوة بعنوان "كم آمنة هي ديمقراطية أميركا؟" عقدها المعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني (تشاتِم هاوس) أواسط مارس/ آذار الجاري. استضافت مديرةُ الندوة ليزلي فينجاموري ثلاثةَ متحدثين، بينهم بروس هوفمان الخبير في شؤون الإرهاب والأستاذ في مدرسة الخدمات الخارجية بجامعة جورج تاون الأميركية، وجَيكوب وَير وهو باحث في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي (CFR).
تعلّق السؤال الأوليّ مِن فينجاموري، وهي مديرة برنامج الولايات المتحدة والأميركيتين في "تشاتِم هاوس"، بآخر مؤلفات هوفمان "الله والبنادق والفتنة: الإرهاب اليميني في أميركا". هنا تحدّث المؤلِف عن التبدّلات مِن الاهتمام بالتهديدات اليمينية الداخلية إلى الإرهاب الدولي بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية (2001). ثم عادت الأولويات لتتغير. المسير الحثيث للإرهاب الداخلي شقّ طريقَه منذ لحظة انتخاب الرئيس باراك أوباما. عوامل عدّة في مقدّمتها رهاب الأجانب تظل الدافع وراءه. يرى هوفمان أن التهديد الإرهابي الداخلي منذ هجوم المتطرّفين اليمينيين على مبنى الكونغرس بواشنطن العاصمة في 6 يناير/ كانون الثاني 2021، وهو يوم استلام الرئيس الحالي جو بايدن منصبه، يمثل خطراً "لم ينته في ذلك اليوم" بل مستمرّ.
الشرائح النمطية في أيّ بيئة ديمقراطية تصاحبها بؤر مجتمعية لها توجّهات مليشياوية أو عنيفة
أكمل جيكوب وَير الجوابَ عن التساؤل الأوليّ بالتأكيد أن أشكالاً جديدة من العنف عبّدت طريقَها في البلاد على مدى السنوات الأخيرة. رأى إقراره أنّ انتخاب أوباما كان لحظةً فاصلة في الإرهاب الداخلي وما تخلل السنوات الثماني اللاحقة من حملاتٍ ضد رئاسة رجلٍ أسود والعنف المصاحب لها، اعتبر أن انتخاب ترامب عام 2017 قادَ إلى حركة العنف "النازي" الداخلية الحاشدة والواثقة. إنه يرجّح أن عمليةَ الدهس التي ارتكبتها سيدة بيضاء، وقُتل فيها شخص وأصيب آخرون في شارلوتسفيل بولاية فرجينيا في أغسطس/ آب عام 2017، تعبير عن تكثيف الحملات شديدة اليمينية وتحشيدها. إذ تجتمع مجاميع من النازيين الأميركيين الكارهين للأجانب هذه المرّة متوقعين أن السلطة متمثلةً بالرئيس ترامب لن تغضّ الطرف عنهم فقط، بل ستدعمهم.
عهدُ بايدن، رغم حدّة النزاع بين المعسكرين الجمهوري والديمقراطي والانقسامات الداخلية، هدّأت قليلاً المخاوفَ أو أرجأت عودتَها، إلا أنها في طريق الإياب. لترامب حظوظ وافرة. أما جمهوره، فموزّع على أقسام. شريحة واسعة منه لا تعاني من رهاب الأجانب ولا تختار العنف، إذ إن بعضها مِن جذور غير أوروبية. هي تجد في المرشّح الجمهوري موفِراً شروطَ خدمة اجتماعية واقتصادية أكثر من منافسه الديمقراطي، خصوصاً مع إخفاقات معيشية خلال السنوات الماضية. أوساط أخرى تنطلق من أولويات محافِظة تجاه قضايا حقوقية يدافع عنها اليسار مثل الإجهاض وشرعنة تحوّل النوع الاجتماعي بل أحياناً مسألة زواج المثليين التي، وإنْ بدا أنها محسومة، لم تزل تواجه اعتراضات. غير أن هذه الشرائح النمطيةَ في أيّ بيئة ديمقراطية تصاحبها بؤر مجتمعية لها توجّهات مليشياوية أو عنيفة، وتنزع إلى الإرهاب إسناداً لتوجهاتها الاجتماعية والسياسية والدينية. مِن هذه البؤر خرَج مهاجمو الكونغرس مطلع عام 2021. منها أيضاً يُحاط ترامب بهالة تقديس شعبوي غير مكترث بالديمقراطية. عديدٌ مقتنع أن التجمّعات البشرية المدفوعة بالعنف اليميني هي سليلة العقيدة السياسية للولايات الجنوبية في الحرب الأهلية الأميركية بين عامي 1861-1865. مع أن المرشّح الجمهوري الشرس يقدّم نفسَه مدافعاً عن إعادة "أميركا عظيمة مرة أخرى"، خلفياتُ جانبٍ من جمهوره غير معنية بالاتحاد المستند إلى مقولاتٍ بعضها يسارية اجتماعياً وليبرالية اقتصادياً وديمقراطية سياسياً. إنها مرتابةٌ من المقولات الليبرالية واليسارية، فضلاً عن لا مبالاتها بالقيم العالمية التي تتكئ عليها الولايات المتحدة.
وُجدت الديمقراطية لتعالج النزاعات وتنظمها وتحول دون انتقالها إلى مستوىً من العنف يهدّد حياةَ الناس أو استقرارَ بلد
على أيّ حال، بلورت أوساطٌ أكاديمية وفكرية ودبلوماسية وهوليوودية تصويراً عن أن المواجهة تقتحم روحَ الديمقراطية وتهدّدها. بالطبع، حتى بعض تلك الأوساط جمهوريُ التوجّهِ ومحافظٌ، إلا أن الخشية من تصاعد حدّة العنف لأسبابٍ سياسيةٍ وتوجيهه ليمسّ الواقعَ الاجتماعي بأكمله، ما يجعل منه إرهاباً داخلياً، دافعٌ مبرَرٌ للشكّ بأن مجاميع تخدم ترامب هي في الأساس تأمل بأن يخدم توجّهاتِها العنصرية واليمينية المتمترسة بنيات استخدام العنف.
وُجدت الديمقراطية لتعالج النزاعات وتنظمها وتحول دون انتقالها إلى مستوىً من العنف يهدّد حياةَ الناس أو استقرارَ بلد. لكنها ليست بالضرورة قادرةً على منع استخدامها من جماعات أو مكوّنات أو أفراد للانقلاب عليها. تسلُّقُ هتلر بين 1930-1933 إلى حكم ألمانيا عبر الديمقراطية ثم الانقلابُ عليها، لحظةُ عتمةٍ ماثلةٌ أمام نخبٍ غربيةٍ مناوئةٍ حكمَ بلدانِها مِن دكتاتورية أو توتاليتارية أو شعوبية. هذا لا ينفي، أن نظماً متمسكةً بالديمقراطية ونُخباً مؤمنة بها تتحالف مع أنظمة دكتاتورية في مناطق أخرى من العالم. تركّز الأوساطُ الأوروبية المدافعةُ عن الديمقراطية على القارّة عموماً، وليس على بلدانها فقط. هناك اعتقادٌ أوروبيٌ أن أيّ دولة من دول الاتحاد أو القارة تنحدر إلى الدكتاتورية أو تصبح شبيهة بها، هي خطرٌ على البلدان الأخرى في المنطقة. لكن المنطلقات في الولايات المتحدة مختلفة. عبر الأطلسي، لم تشعر الولايات المتحدة بأن أي خطرٍ على الديمقراطية تهديد لنظامها داخلياً، بل تعاملت معه من منظار حجم تهديده منظومة الدول (المنظومة الغربية) التي تقودها هي. لذا، لم تتخلّ واشنطن كثيراً عن دعم فرانثيسكو فرانكو في إسبانيا وساندت استخباريّاً بينوشيه في تشيلي. الاثنان، وإن كانا مستبدّيْن بامتياز، خدما المواجهة مع خصم المنظومة الديمقراطية القديم، الاتحاد السوفييتي. وحين عارض أميركيون كثرٌ حربَ فيتنام، لم يعارضوها رفضاً لنظامَ بلادِهم، بل لأنها عذّبت روحَ ديمقراطية بلدِهم الليبرالية والحقوقية. الواقع هذه المرّة مختلف. الحرب دفاعاً عن المنظومة السياسية الأميركية الملهمةِ كثيرين في العالم ليست الآن ضدَّ إرهابٍ خارجي قادَه أسامة بن لادن أو أيمن الظواهري أو ولاية الفقيه الإيرانية، بل إرهابٍ داخلي ذي مقولاتٍ يمينية متطرفة وشعبوية غوغائية ومستقطبة نازياً. ... فهل فعلاً، يهدّد هذا النظامَ الديمقراطي الأميركي أم أنه مجرّد بروباغاندا انتخابية؟
فوزُ ترامب وبلوغُ المخاوف التراقي ما يزال احتمالاً، يصعُب أن يقال بعدُ إنه مرجّح
لا يمكن نسفُ احتمالِ وجود حملة إعلامية، خصوصاً أن النزال مع المرشّح الجمهوري الدؤوب شرسٌ جداً وذو أشكالِ ووجوه. في نزالٍ كهذا، لا بد من اكتشاف تهويل. هناك بالطبع جانب تهويل في المعركة بين بايدن وترامب، خلفياتها انتخابيةٌ صرف، ودوافعها أن يبقى الأول في البيت الأبيض سنواتٍ أربعاً أخرى. إلا أن خطاب ترامب السياسي من جهة، وأفعاله القديمة والقريبة من جهة أخرى، إضافةً إلى جمهورٍ غير قليل يريد من البيت الأبيض فرصةً لمحاربة التنوعِ العرقي والديني والسياسي في بعض الولايات، هي مع بعضها أرضيةٌ خصبة للمخاوف والارتياب.
ورغم الضجيج، فوزُ ترامب وبلوغُ المخاوف التراقي ما يزال احتمالاً، يصعُب أن يقال بعدُ إنه مرجّح. ثم، إنْ فاز، ستطرأ فعلاً تغييراتٌ كثيرةٌ في مفاصل عدّة. مع هذا، يصعُب أن يتهدّد تهديداً وجودياً نظامٌ لا يقوم على الانتخابات فحسب، بل على عوامل عديدة تربط الولايات وتبقيها متّحدة. هنا، بالعودة إلى الندوة المذكورة، يتفاءل كلٌ من بروس هوفمان وجيكوب وَير في نهاية المطاف، بعد التشاؤم وسط الكلام وفي بداياته، بأن احتمالات العنف رغم رجحانها يصعب أن تُهددَ الديمقراطيةَ محيلين إياها إلى حربٍ داخلية. يرى وَير أن الحرب الأهلية، بمعناها التاريخي أميركياً، غير ممكنة لاعتباراتٍ جغرافية. لم تعُد هناك ولاياتٌ جنوبيةٌ بصبغة واحدة وأخرى شمالية بصبغة أخرى ستتحارب وتنتهي إلى التقسيم. التداخل السكّاني في البلاد يحكم الجميعَ بمستوى عالٍ من التعايش لن تنهيَه جماعاتٌ نازيةٌ أو إرهابية أو يمينية هنا وهناك. في حين يعوّل هوفمان على المنظومة الديمقراطية نفسها، على قوتها العُلوية على الأفراد، مهما كانوا أقوياء. هو ذكَّر، ممثِلاً بكفاح كثيرين في أفغانستان، كي يذهبوا إلى الولايات المتحدة خلال انسحاب حلف الناتو، بألا أحدَ يكافح مخاطراً بحياته كي يذهب إلى الصين أو روسيا أو إيران أو كوريا الشمالية. يفسّر ذلك أن الديمقراطية وحرية التعبير هي السبب. وغالبية الأميركيين واعية بهذا عن بلادهم. الغالبيةُ لن تفرّط بهذا النظام، مهما صخبتْ جلبةُ النازية.
في النهاية، الاعتقاد بأفول قريبٍ للديمقراطية الأميركية وليد مخاوف من العنف أو تمنيّاتٌ من مناوئين. الوضع الأقرب إلى التصديق أن عقماً تشتكي منه الولايات المتحدة يهدّد الاستقرار. عدا عن هذا، لم تتمكن الديمقراطية الأميركية منذ نحو عشرة أعوام من تقديم مرشّحين أو مرشّحات من أجيالٍ أحدث يقنعون الجمهور، وبقيت أسيرةً رجال ينتمون عقلياً إلى حقبةٍ تجاوزها العالم فضلا عن البلاد.