كاره الحروب في نيويورك

25 سبتمبر 2024

(نجيب بلخوجة)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

معذور مَن لم يتوقع أن يسمح العالم لإسرائيل أن ترتكب ما شاءت من جرائم في غزّة بعد تلك العملية التي فتحت أبواب جهنّم على الفلسطينيين وأرضهم القليلة المتبقية. وإن وُجد فعلاً من فوجئ بمستوى وحشية إسرائيل وإجرامها في غزّة، وإذا عُثر على مَن شكّك قبل عام في القدرات الحربية والتكنولوجية والإجرامية لجيش الدولة العبرية، وإن انتظر أحدهم بكل سذاجة تدخّل إيران لوقف حرب الإبادة، كيف يمكن فهم أنّ حزب الله، بكل هالة القوة والعبقرية التي نُسجت حوله، لم يكن واثقاً من أن الضوء العالمي لإسرائيل ضده سيكون أكثر اخضراراً مما هو في مواجهة حركة حماس؟ وكيف يمكن تفسير جهله بكم هو مخترق أمنياً؟ وأنّ سماح واشنطن لتل أبيب بارتكاب ما تريده في لبنان سببه عدم خشيتها من تدخّل طهران حربياً، أو تهديدها أهم طريق نفطي في العالم، نتيجة وفائها لتقاليدها بخوض الحروب بالوكالة حصراً، أو لأن اتفاقات علنية أو ضمنية جاري العمل على إبرامها مع أميركا والأوروبيين، أو ببساطة حرصاً من نظامها على بقائه بأي ثمن، وترك هواية لعن "الشيطان الأكبر" لأتباعها العرب بينما هي تتفرغ لصيانة مصالحها الوطنية؟

ما فعلته إسرائيل في لبنان في أسبوع واحد، منذ ثلاثاء "البيجر" وأربعاء اللاسلكي مروراً بتصفية القيادات العسكرية والأمنية لحزب الله والحرب الشاملة التي شنتها على لبنان وقتلها في يوم واحد (الاثنين الماضي) 500 شخص وجرح ألفين (أكبر عدد من القتلى والجرحى يسقطون في يوم واحد منذ انتهاء الحرب الأهلية)، في مقابل الرد الضعيف للحزب، أبطل مفعول مجموعة من الخرافات، مثل توازن الردع بين إسرائيل وحزب الله. ما حصل من شأنه التذكير بأن قوة المليشيات في الحروب الأهلية هي شيء، وفعاليتها ضد جيوش نظامية متطورة عسكرياً وتكنولوجياً شيء آخر تماماً. سنة "إسناد غزة" أظهرت، من ضمن أمور أخرى، أن حزب الله يخوض حرباً إيرانية ــ إسرائيلية غير مباشرة، وأنه لا تمكن من إسناد الفلسطينيين في غزة أو الضفة أو القدس، ولا من تخفيف الضغط عنهم، الأنكى من ذلك أنه "سرق" منهم الأمر الوحيد الذين كانوا "ينعمون" به ربما، ألا وهو الاهتمام الإعلامي بإبادتهم.

لم تعد الكتابة عن الخوف من أن يتحول لبنان إلى غزّة ثانية لكن أكبر بكثير جغرافياً وديمغرافياً، تعني شيئاً لأن السيناريو الجهنّمي يحصل بالفعل. ما قد يكون أمراً مفيداً اليوم هو رصد تصريحات حكام طهران كعرض وزير الخارجية عباس عراقجي في نيويورك على الولايات المتحدة الشروع في مفاوضات فوراً لإعادة إحياء الاتفاق النووي. جدير سماع الرئيس مسعود بزشكيان يخبر ممثلي وسائل الإعلام الأميركية عن "سعيه إلى الجلوس مع الأميركيين والأوروبيين للحديث والتفاوض حول العدوان الروسي على أوكرانيا". نعم، صار رئيس إيران يسميه "عدواناً لطالما رفضته طهران"! مثير أكثر وأكثر تطبيق بزشكيان "فتوى" المرشد الأعلى علي خامنئي الصادرة في العاشر من سبتمبر/ أيلول الحالي عن جواز التراجع التكتيكي أمام العدو سياسياً وعسكرياً، فتسمع الطبيب ــ الرئيس يخبر ممثلي 20 وسيلة إعلامية أميركية في نيويورك بأن إيران لن تنزلق إلى حرب إقليمية "لأن ذلك لن يكون في مصلحة أحد" ولأن "إيران ترفض أن تشارك في ضرب استقرار المنطقة"، ولأن ذلك سيكون بمثابة "السقوط في فخ" إسرائيلي. ولكي يزيدهم من البيت شعراً، أخبرهم بأن إيران "تريد أن تعيش بسلام ولا تريد حروباً".

مكتوب على الجماهير أن تكتفي بشتم الصهيونية العالمية وأذنابها صبحاً ومساءً وألا تقول إن هناك من أخذنا معه عنوة في حروبه الانتحارية عندما فتح الباب ليدخل منه الوحش الإسرائيلي ويقضي على القليل المتبقي من فلسطين ولبنان. ممنوع قول ذلك لأنه ليس إلا تشكيكاً في انتصاراتنا التي تختزلها إبادتنا. أما عرض الدكتور بزشكيان التفاوض على سلام مع الشيطان الأكبر في نيويورك، وتحليل مرشده التراجع التكتيكي أمام العدو، فإنما هذا جهاد أكبر لا يجب أن يشوّش عليه جهادنا الأصغر.