قيس سعيّد ضد التيار
تحوّلت العلاقة الحالية بين الرئيس التونسي قيس سعيّد وخصومه إلى كسر عظام. حصل ذلك في زمن قياسي، بعد أن هيمنت أخبار الاعتقالات والمحاكمات السياسية والإشاعات وخطابات الحقد والإكراه، ما دفع المفوّض السامي لحقوق الإنسان في منظمة حقوق الإنسان إلى أن يعبر عن قلقه إزاء ما وصفه بـ "تفاقم القمع تجاه المعارضة والمجتمع المدني" في تونس.
ما أثار استغراب الأوساط السياسية والحقوقية، وحتى النقابية، المبرّرات المقدّمة رسميا لتعليل الاعتقالات التي شملت، أخيرا، شخصياتٍ من مشارب مختلفة. قيل إنها اجتمعت للتآمر ضد أمن الدولة الداخلي والخارجي. ويتمثل هذا التآمر في السعي إلى توحيد صفوف المعارضة، والعمل على تغيير الرئيس سعيّد، عبر رفع أسعار المواد الأساسية من أجل تأليب المواطنين! بناء عليه، وصف الموقوفين بـ "الإرهابيين والمجرمين". وأضاف، قبل إحالتهم على القضاء، إن "التاريخ أثبت أنهم مجرمون قبل أن تثبت المحاكم ذلك"!
يحصل هذا بعد 12 سنة من الثورة. مدانون مقدّما، ولا يتمتعون بقرينة البراءة، ومن دون دليل له علاقة بالإرهاب أو بالمسّ في أمن الدولة أو بسياسة الأسعار؟ ما الذي دفع السلطة إلى التورّط في مأزقٍ من هذا القبيل وبهذا الحجم؟ .. تدلّ المعطيات المتوفرة على أن الرئيس سعيّد يخشى فعليا من أن تتحد المعارضة، بعد أن أصبحت هذه الفرضية ممكنة. لقد تعزّز احتمال أن يقترب خصومُه، يوما بعد يوم، من نقطة الالتقاء على أرضيةٍ مشتركة، فالخلاف بين أغلبية المعارضين وحركة النهضة يضيق تدريجيا بفضل سياسة قيس سعيّد التي تصرّ على معاداة الجميع والإضرار بمصالح معظم الأطراف بمن في ذلك أنصاره وحلفاؤه. وهو ما أوجد بيئة صالحة لدعاة توحيد المعارضة القائلين بإعطاء الأولوية الآن لمواجهة الرئيس، والعمل على إسقاطه. إذ لأول مرة تحظى شخصية تونسية بثقة أطرافٍ عديدةٍ مختلفة سياسيا، ويمكن أن تصبح جامعة وموحّدة، وهو خيام التركي. لهذا ما أن تعدّدت لقاءات الرجل بأطرافٍ عديدة، خاصة الاوساط الدبلوماسية التي بدأت تهتم بالرجل وتتواصل معه، حتى انزعج رئيس الجمهورية وقرّر إجهاض هذه الحركية في المهد، قبل أن تتحوّل إلى تيار جارف.
في سياقٍ موازٍ، سبق لرئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، أن تطرّقت خلال محادثتها الرسمية مع الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، إلى مستقبل الاستقرار في تونس. يضاف إلى ذلك الخلاف الذي حصل بين تونس والجزائر، بسبب قضية الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي. كما تجدر الاشارة الى استنطاق الجهات الأمنية التونسية رجل الأعمال والشخصية الغامضة والمثيرة للجدل، كمال لطيف، عن فحوى اللقاء الذي جمعه أخيرا بالسفير الإيطالي، والعلاقات القوية التي تربط الخيام بالرئيس الفرنسي ماكرون وبدوائره الخاصة. حتى إيران سجلت حضورها من خلال دعوة سفيرها زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي إلى حفلها الوطني، ووصفه بأحد كبار الشخصيات المؤثرة في العالم الإسلامي، وذلك رغم الضغوط السياسية والأمنية والقضائية والإعلامية التي يتعرّض لها هو و"النهضة". أثارت كل هذه المعطيات والمؤشّرات قلق قيس سعيّد وجعلته يشعر بأن معركته ضد خصومه لم تُحسم بعد، وقد تؤدّي في الفترة المقبلة إلى مشهد جديد وموازين مختلفة، خصوصا وقد عاد من جديد التفكير في سيناريو اللجوء إلى "الانقلاب الطبي" الذي تحدّث بعضهم عنه (منصف المرزوقي مثلا)، رغم أن شخصياتٍ كثيرة في المعارضة نفت الخوض في هذا الأمر. جعل هذا كله الرئيس ينتفض، خصوصا أن الحالة الاقتصادية والاجتماعية تزداد سوءا يوما بعد يوم.
يزيد الأمر غرابة استعجال الرئيس الدخول في صراعٍ مع الجميع تقريبا، بما في ذلك الاتحاد التونسي العام للشغل الذي، رغم محاولاته، تجنّب الصدام، إلا أن السلطة تحاصره من جميع الجهات، لتدفع به نحو المواجهة التي أصبح موعدها قريبا مع تنظيم النقابيين مسيرات شعبية، بعد أن نظّم الصحافيون يوما للغضب.
كل هذه الأحداث وغيرها تعني أساسا أن سعيّد يقامر حاليا بكل رصيده في معركةٍ يخوضها من دون احترام القواعد الدنيا للعمل السياسي، ومن دون أن يضمن لنفسه فرصة النجاح.