قيس سعيّد .. خطاب التكفير باسم الشعب

13 فبراير 2022
+ الخط -

في خطوة جديدة نحو التحوّل إلى الديكتاتورية الفردية، أعلن الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في السادس من فبراير/ شباط الجاري، حلّ المجلس الأعلى للقضاء، الذي هو مؤسسة دستورية ذات استقلالية عن المؤسسة التنفيذية، وتقوم على ضمان استقلال القضاء وحسن سير العدالة. والتبرير الذي أورده سعيّد لا يخرج عمّا سبق، وما برّر به حلّ البرلمان في يوليو/ تموّز الماضي. تختلف الأسباب المعلنة فقط، بينما الجوهر واحدٌ، متمثّل بالانقضاض على الديمقراطية بعد الوصول إلى الحكم بأدواتها.

بوصول شخصٍ يكره السياسة والسياسيين والثقافة والمثقفين إلى سدّة الرئاسة، نحصل على أداءٍ أجوف فارغٍ من كلّ محتوى، فعندما يستحلِبُ هذا الشخص، المجهول سابقاً حتى ضمن الأوساط الأكاديمية أو القضائية أو السياسية، مزاج الجمهور الغاضب من عدم رؤية نتائج حقيقية بعد عشرة أعوام على الثورة، وعندما يستعمل خطاباً شعبوياً هدفه النيلُ من جوهر السياسة والديمقراطية، بحجّة النزاهة ومحاربة الفساد، وعندما يتبجّح بالقشور لتصدير نفسه مترفعاً عن المصالح الشخصية، كما يفعل مستعرضاً عند تدبيج خطاباته بخط اليد، فإنّه لا يقدّم سوى استعراضٍ بهلواني لا يسمن ولا يغني من جوع.

بوصول شخصٍ يكره السياسة والسياسيين والثقافة والمثقفين إلى سدّة الرئاسة، نحصل على أداءٍ أجوف فارغٍ من كلّ محتوى

بحجّة منع وقوع المسّ أو القدح باستقلال القضاء، طلب الرئيس التونسي المنتخب، قيس سعيّد، من زوجه القاضية إشراف شبيل أخذ إجازة بلا راتب خمسة أعوام هي مدّة انتهاء ولايته الدستورية، لكنّه لم يتورّع عن حل المجلس الأعلى للقضاء، متجاوزاً حدود صلاحياته واختصاصاته، غير مُقيمٍ أي اعتبار للدستور الذي كان يدرّسه في الجامعة لطلاب القانون والحقوق! إنّه ديكتاتور أشدّ خطراً من القادمين من صفوف العسكر، فهو أتى على أكتاف الديمقراطية وبأدواتها، وهو مصممٌ على نحرها بصفاقةٍ لا مثيل لها. لا يغيب عن البال في هذه المقاربة وصول أدولف هتلر إلى الحكم عن طريق الديمقراطية أيضاً.

ليس خطاب التكفير دينياً فحسب، بل يمكن أن يكون سياسياً وإعلامياً وثقافياً واجتماعياً وأكاديمياً حتى. ولو عدنا إلى أسباب نشوء التكفير لوجدناها نابعةً من عدم القدرة على قبول الآخر بالأساس، وهذا يعني أنّ المكفّرين ينفون وجود المخالف لهم، كي يبقوا وحدهم في الساحة، رغم أنّ ذلك لن يعود عليهم بالمنفعة في المحصّلة النهائية، لأنّ الأشياء تُعرف بأضدادها، والأفكار تتطوّر بالنقد والمعارضة والنقض والإثبات.

يظنّ الديكتاتور نفسه منقذاً، ويرى في الآخرين عقباتٍ أمام مهامه التي كلّفته بها عناية السماء

يرى نصر حامد أبو زيد أنّ النقاش العلمي هو الاتفاق أو الاختلاف مع الأسس التي أدّت إلى هذه النتائج أو تلك، والتكفير هو من أدوات الرفض الذي يعتمد ليس على مناقشة الأسس الفكرية لأي فكرٍ كان، وإنما على مناقشة النتائج، فتصبح النتيجة التي وصل إليها الباحث اختصاراً لفكره وشخصه، وبالتالي يكون الاختلاف معه بشأن هذه النتائج موجباً لنفيه، بغضّ النظر عن الأسس التي انطلق منها، أو المنهج الذي اتبعه في الوصول إليها. وتكون الطامّة الكبرى عندما تُشحن هذه النتائج بحمولاتٍ أيديولوجية، وتُفسّر كما يريد لها الخصوم، ويجري تأويلها بحيث يُستنتج منها ما يعاكس مقصد صاحبها بالأساس.

لا يرى قيس سعيّد في المشهد سوى نفسه، فعندما ينظر كلّ صباح في مرايا قصر قرطاج التاريخي يرى شبحاً غير مُقنع للآخرين، ولا مُقنع حتى لذاته، فبمحض المصادفة التي تقاطعت مع نقمة التونسيين على الأداء السياسي الهزيل للأحزاب، وبغفلة من الزمن، ترشّح لمنصبٍ ما كان يحلم في يومٍ أن يصل إليه، بل حتى مجرّد التفكير باحتمال ذلك. من هنا يكفّر قيس سعيّد التونسيين المعارضين له، أفراداً وجماعات، أحزاباً ومؤسّسات، فهو غير قادرٍ على استيعاب أنّ أحداً يمكن أن ينتقده أو أن يعارضه، وهو الذي اختاره الشعب لنقائه ونزاهته وترفّعه حتى عن السياسة والمواقف السياسية!

الأفراد وإن صغُرَ شأنهم، قادرون على إلحاق الأذى بالملايين من البشر وببلاد عريقة

يظنّ الديكتاتور نفسه منقذاً، ويرى في الآخرين عقباتٍ أمام مهامه التي كلّفته بها عناية السماء، فيصعد على هتافات الجماهير الغاضبة، ليقطع حناجرها بعد فترة. لن يسلم من تفاهة الشرّ، حسب تعبير حنّا أرندت، حتى أعوانه ومن قام على أكتافهم. وكما فعل هتلر برفاق دربه من الحزب النازي وضباط الجيش وقادة فرقة العاصفة في ليلة السكاكين الطويلة (Nacht der langen Messer)، سيفعل قيس سعيّد بكلّ من وقف معه في هذا الانقلاب على تونس وتجربتها الديمقراطية الفريدة في محيطٍ هائجٍ من الاستبداد العربي.

يبدأ التكفير بنفي الآخر، ثم بسحقه وإلغائه، ويستعين المكفّرون على ذلك بغضبٍ عارمٍ عند الناس، عند بسطاء الناس خصوصا، أولئك الذين لا مطلب لهم من السياسة والسياسيين سوى بذل الجهد لتأمين عيشٍ كريم لهم ولأسرهم، وأملٍ بمستقبلٍ واعدٍ لأولادهم. لكنّ التكفير لا يقف عند حد، حتى يصل إلى نهاياته المحتومة، وكما وصل الأمر بهتلر إلى الانتحار، سيصل بأمثاله من الأقزام المتنمّرين كذلك. ومع الفرق الشاسع بالمقام بين المجرمين، سيكون الدمار عميماً شاملاً المجتمع كلّه، فالأفراد وإن صغُرَ شأنهم، قادرون على إلحاق الأذى بالملايين من البشر وببلاد عريقة موغلة بالحضارة.

حمى الله تونس وأهل تونس من التكفير والمكفّرين.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود