قلم رصاص
لا أذكر كيف كان قلمي الرصاص الأول. لم يكن قصيراً ومكلوماً بعضّات أسناني الحليبية، أو مبريّاً من الجهتين، كما يخيّل إليّ اليوم أنّه كان. أذكره أخضر اللون باخضرارٍ داكن، أملس مستديراً أو بأضلاع متعدّدة كانت تحفر في أصابعي الطرية مخلفةً ما يشبه ثؤلولة حمراء تنتظر عطلة نهاية الأسبوع كي تضمحلّ. أكثر ما كنت أحبّ فيه هو طوله اللامتناهي، ورصاصته الدقيقة، ثم رأسه الأحمر المحاط بتاج ذهبي رقيق يحميه من السقوط، كنت أحرص كلّ الحرص على إبقائه نظيفاً، غير ممسوس. إلّا أنّ الأخطاء كانت تقع، ولتصحيحها، كان لا بدّ من استعمال تلك الممحاة الصغيرة التي كان يقهرني جداً أن تنسلخ عن القلم قبل أن أتمكّن من استهلاكها كلية.
لا أذكر وجود المبراة، أو أنّني لكراهيتي النوع الرخيص منها ولما كانت تخلّفه من تشوّه في الخشب الذي كان يتفتّت متناثراً، متسبّباً في تكسّر الرصاص، كنت ألجأ إلى والدي كي يبري لي قلمي، ذلك أنّي أضعتُ مبراتي لا أدري أين، أو نسيتها في المدرسة. يستلّ أبي سكّينه الصغيرة من جيب بنطاله، يُثبت رأس القلم على بطن إصبعه، ثم يبدأ بمعالجة الجوانب بتأنّ حيث الخشب متطاولٌ على الرصاص. وحين يبرز هذا الأخير بنتوءاتٍ لا تعجبني في البداية، وإن كنتُ أعرف أنّها ستختفي ما إن يبدأ احتكاكه بالصفحة البيضاء، أشعر بغبطةٍ سرّيةٍ تسري في أطرافي وبامتنان عظيم.
حين أصبحتُ في الصف الثالث، جاءنا الخبر المهول بوجوب ترك أقلام الرصاص لصالح أقلام الحبر التي تُعبّأ من الدواة، والتي تحتاج أناةً وصبراً ولجوءاً إلى أدواتٍ أخرى كالورق النشّاف وسواه، كي لا يتمدّد الحبر قبل أن يجفّ، فتختلط الكتابة وتسمن الأحرف ويتشوّه الخطّ. لا أخفي أنّي تحمّست متأثرةً بحماسة رفاقي، لكنّ شجناً ما تسلّل إلى قلبي حين أدركتُ أنّ أقلام الرصاص أُنزلت مرتبةً، وأنّها باتت مخصّصة فقط لكتابة المسوّدات. أنظر إلى أصابعي الصغيرة في نهاية اليوم المدرسيّ، فأجدها متّسخة، مبقّعةً بحبرٍ لا يمحوه الماء ولا الصابون، ويهوّلني أن أجد أحياناً أنّ الحبر قد "فار" ونزل إلى مريلتي مخلفاً آثاراً لن يشفع لها أنّها هي الأخرى زرقاء.
ومع ذلك، وبالرغم من افتخاري بارتقائي إلى صفّ أعلى، واستخدامي مادة أغلى ثمناً من الرصاص، فإنّ عاطفةً لم تبارحني يوماً إلى أقلامي الأولى التي استبدلتها لاحقاً بتلك البلاستيكية الحديثة التي تُعبّأ ما إن تفرغ برصاصاتٍ تشرى على حدة في عبواتٍ شفافةٍ صغيرة، تختار نوعها وحجمها على هواك. وإذ أُدرك أنّ موعد "الولادة" قد حان، أسارع إلى اختيار دفتر كبير بصفحات بيضاء وأقلام "فابر كاستيل" الخشبية أو تلك البلاستيكية، شاعرة بنشوة فظيعة، وأنا أخطّ الجملة الأولى من روايتي، مسحورة بذلك الخط الرمادي السحري الصغير، يتيح التصحيح مباشرة، ملء الهامش بملاحظات، أو الخربشة بانتظار أن تنجلي الفكرة...
أذكر هنا شيئاً كتبه ج. م. كويتزي عن الكاتب السويسري روبرت فالزر (1878-1956) الذي بدأ يقاسي من الكتابة بالريشة، بعدما كان يفاخر بخطّه الجميل المرتب. حين أصبح في ثلاثينياته، راح يعاني من انقباضاتٍ في يده اليمنى لأسبابٍ نفسيةٍ مردّها كراهيته غير الواعية للريشة كأداة، إلى أن اهتدى إلى الكتابة بقلم الرصاص، ما جعله يعتبرها "نظاماً" جديداً غيّر أسلوبه وحلّ معضلته. يحكي في أحد نصوصه عن "الغبطة الاستثنائية" التي منحه القلم إياها، مضيفاً "أنّه يهدّئني ويسعدني". ويعقّب كويتزي قائلاً: "مثل حال رسّام يمسك بيده فحماً، احتاج فالزر إلى التمتّع بحركةٍ ثابتةٍ وذات إيقاع، قبل الاهتداء إلى الحالة حيث يصبح الحلمُ، التأليفُ ودفق الكتابة، الأمر نفسه تقريباً".