قبل النوم بقليل
قبل النوم بقليل، وبعد أن أكون قد أطفأتُ الأنوار وتكون قد هدّت جفنيّ القراءاتُ الطويلة والأنباء "المفرحة"، أبحث وأنا مستلقيةٌ في سريري عن صورة أخيرة، "طبيعية"، تغسل عينيّ. غالبا ما أقع على فيديوهاتٍ طويلةٍ بعض الشيء لأناسٍ يعيشون في قراهم النائية الكائنة في موقعٍ مجهولٍ ما، وهم يقومون بمهامّهم الاعتيادية من زرع وبناء وتربية ماشية وطبخ في العراء. الفيديوهات الأخيرة هي الأحبُّ إلى قلبي، سيّدات مكتملات في العمر، يعدِدن وجباتٍ معقدة، في قلب الطبيعة، للأزواج والأبناء، ثم يجلسن معا حول مائدة مبتكرة تحت شجرة ليتناولوا ما استغرقن ساعات طويلة في إعداده. هذا هو الحب.
ليل أمس، وبعد نهار طويل مُجهِد، مع أنه عطلة نهاية الأسبوع، كان نصيبي نتفٌ من حياة سيدة صبية، مرضعة، تغسل طفلاً بإبريق ماء، قبل أن تُلبسه ثيابه، تُرضعه، وتضعُه داخل خيمة شفافة تُقفل بسحّاب. الخيمة الصغيرة هذه هي الشيء الوحيد الحديث الذي يربط المكان بالزمن الذي نحن فيه، مكانٌ يشبه مغارة أكثر منه غرفة. هناك أيضا جرّة غاز، وفي ما عدا ذلك، الأشياء كلها لا تشي بهويةٍ زمنيّة محدّدة، وهي ملقاةٌ في معظمها على الأرض: أكياس خيش ملأى بالمؤونة، أغطية، وأشياء أخرى موزّعة على الأطراف، لا أثاث، لكنّ المكان على ترتيب ونظافة مدهشيْن. الجدران خاليةٌ من أي صورة، وكل ما هو موجودٌ مقدّر لمهمة ما.
الطفل غاف بأمان، والسيدة الحافية تسير فوق بسط محاكة باليد، متّجهة إلى الخارج، ترتدي خفّيها الموضوعين على إحدى الدرجتين المفضيتيْن إلى حَوْشٍ تظلّله ستارة شفافة خضراء أطرافها معقودة على أغصان أشجار مجاورة. هنا أيضا، الترتيبُ سيّد المكان. هناك مصطبةٌ عاليةٌ فيها حفرة مربّعة على شكل مجلى، تمتدّ فوقها قصبة طويلة توصل المياه. تديرها السيدة، لتنظيف أوان حديدية، تضعها في حفرة ثانية مستطيلة وفيها رفوفٌ تشير إلى أنها خزانة لتوضيب أواني المطبخ. أنظر إلى السماء، ثمّة عدد قادم من الغيوم. ما تُراها ستفعل لو أمطرت وكيف تحمي أشياءها الموضوعة خارجا، أم أنها تشعر بالثقة في بلادٍ تفي فصولُها بالوعود؟
تعود المرأة لتطلّ على الصغير، ما زال غارقا في نومٍ هادئ لذيذ. تذهب نحو جرّة الغاز لتشعل موقدا صغيرا تقلي عليه بيضتين استلّتهما من قفصٍ صغيرٍ بجانبها. على المرضعة أن تتغذّى، لتُغذّي. يخطُر لها، بعد الأكل، أن تضع مخدّة على الأرض، وتتمدّد إلى جانب رضيعها لتنام. هكذا هنّ الأمهات، نهاراتهن مرتبطةٌ بدورة أكل أطفالهن ونومهن.
ساعة الغروب. تشعل المرأة قنديلا. لا يوجد أحد في الجوار. لا أدري إن كانت تنتظر رجلاً يعود من يومه الطويل، أو إن كانت أمّا عزباء. هدأتها وهدأة المكان مرهمٌ بروح النعناع. أغمض عيني للحظة وأنتقل إلى هناك. أول برودة المساء. الصمت، بعيدا عن كل ما يُدعى آلة، البعد عن الهاتف والكومبيوتر والتلفزيون والمذياع والسيارة والأضواء الكهربائية. الإقامة في الماء، في الخضرة، في عالم صغير لا تعدو حدودُه هذا الطفل وهذا الحوش البريء. الجلوس في الزمن كما هو، غير زائدٍ وغير منقوص، في الوقت الجاري على مهل، لا تقيسُه عقاربُ ولا خطى ولا إنجازات.
أول الظلمة. لا أريد أن أفكّر أنها وحيدة، وبعيدة، وربما تخاف. لا أريد أن أفكّر ما تراها ستفعل لو مرض طفلها وارتفعت حرارته، وإلى أين تتوجّه به إن استحوذت عليه الحُمّى. لا أريد أن أُلبسها مخاوفي، وساوسي، قلقي. فلأبقها بعيدة، نهارية، مشرقة، ولأطفئ شاشة الهاتف قبل أن ينقلب السحر عليّ غمّا وأرقا. أغمض عينيّ، أستعيد الجزء الأول من الشريط، البيت الهادئ المرتّب، الحوش اللطيف... ماذا!؟ كان ثمّة كاميرا تصوّر هذا كله... ثمّة من كان موجودا هناك!