قبل الانقلاب في تونس وبعده

09 يناير 2023
+ الخط -

ينتشر في أوساط النخب السياسية في تونس ما يشبه قناعة راسخة بأنّ النظام بدأ يحزم حقائبه راحلاً أو مرحّلاً، بعد أن تحوّل إلى عبء على الجميع، بما فيه من جاء به أو من دعمه، خصوصاً وقد تآكلت شعبيته. ولعل نسب المشاركة في انتخابات الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) قد بدّدت كل تلك الادّعاءات التي كان يعتمد عليها ويقنع بها غيره، أنّ له شعبية منقطعة النظير. كان الرهان عليها قوياً، لكن علينا ألّا نرتمي في أحضان رغباتنا وأمنياتنا. لم يأتِ قيس سعيّد على ظهر دبّابة، بل كان خيار التونسيين، أي تلك الأصوات التي صعّدته رئيساً منتخباً... لا يمكن تماماً أن ننكر أنّ التونسيين صوّتوا له بكثافة في الدور الثاني، وفضّلوه، في الدورين، الأول والثاني، على أسماء مهمة في النضال من أجل الديمقراطية والصراع المرير مع الاستبداد، حمّة الهمامي، نجيب الشابي، مصطفى بن جعفر، عبد الفتاح مورو، محمد عبّو... فهؤلاء وغيرهم نالتهم من استبداد بن علي ألوانٌ من التعسف، سجن ونفي وغيرهما. مع ذلك، أعرض عنهم الناخبون، واصطفوا في هذا السباق الانتخابي الشرس مع قيس سعيّد، وهو الذي لم يكن قد شارك مطلقاً في ذاك النضال الديمقراطي، بل كان محاضراً في أوساط حزب التجمع الدستوري الحاكم، تحت نظام زين العابدين بن علي، ومزكّياً كلّ خياراته السياسية والدستورية.

قيس سعيّد هو اللاعب الأقوى في الساحة السياسية الآن، ويملك، بحكم الواقع، كلّ السلطات التي طوّعها لإرادته

تتوالى، أخيراً، المبادرات السياسية من أحزاب ومنظمات مهنية وجمعيات ونقابات، إما بشكل منفرد أو في شكل أحلاف وتجمعات. ومع أنها لم تكشف بعد عن تفاصيلها، تجعلنا التصريحات الواردة على لسان أصحابها نميز بين نمطين من هذه المبادرات: الأول مبادرات تحرص على طي صفحة الانقلاب وإغلاق قوسيه الكريهين، استناداً إلى الشرعية، وتمسّكاً بدستور 2014، في حين يقف النمط الثاني من المبادرات تحت سقف الانقلاب، وهي في الأخير ليست سوى مد الانقلاب بطوق النجاة وتحسين مردوديته السياسية. إنها إنقاذ له وحرص على تجديد دمائه الآسنة. ظلّ خط هؤلاء مسترسلاً: المساندة المطلقة لـ "25 جويليه" (يوليو/ تموز 2021)، ثم طلب "التشاركية"، ثم المساندة النقدية، فطلب المناولة، وأخيراً مبادرات طوق النجاة: تغيير حكومي، تخفيف طلبات صندوق النقد الدولي، تعديلات طفيفة على دستور الانقلاب 2022. تبدو مبادرة ثالوث المجتمع المدني، في انتظار الإعلان عنها رسمياً وبشكل دقيق، عمادة المحامين، اتحاد الشغل، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، غير بعيدة عن هذه الوصفة التي تنقذ النظام، قبل أن تنقض الديمقراطية.
لا ندري مدى دقّة هذه التوقعات، خاصة أنّ الرئيس قيس سعيّد هو اللاعب الأقوى في الساحة السياسية الآن، ويملك، بحكم الواقع، كلّ السلطات التي طوّعها لإرادته، ويرفض تماماً أن يبدي أي استجابة لحوار وطني يجمعه مع خصومه حتى الأكثر اعتدالاً. لقد استحوذ، بالمراسيم التي أصدرها، أو عبر تفكيك ما كان يعدل موازين القوى، إضافة إلى ضعف المجتمع المدني، على نفوذ إمبراطور قرون وسطى. ولذلك ليس متوقعاً أن يُبدي من الليونة ما يجنّب البلاد السقوط في الفوضى أو العنف المعمّم، في ظل تدهور القدرة الشرائية لعموم المواطنين وندرة المواد الغذائية.

ثمّة ميثاق أخلاقي فوق الديمقراطية، وأعلاها يحتاج أن يكون ناظماً لعقد اجتماعي جديد للتونسيين

وعلى افتراض أنّ رحيل سعيّد اقترب، فإنّ المرحلة التي ستليه قد تعيد إنتاج سيئات ما قبلها، سواء التي ولدت مع الانقلاب أو مع عشرية الانتقال الديمقراطي، ما لم يقم التونسيون بجملة من المراجعات الجذرية في ثقافتنا السياسية، لعلّ أهمها القطع مع التوافقات السياسية الفوقية، والحرص على أن تنتفع من الانتقال الديمقراطي أوساط شعبية واسعة، من خلال الرخاء الاقتصادي.
لا يمكن أن ننسى أنّ الخطاب الشعبوي الذي سوقه قيس سعيّد، ووجد صدى كبيراً لدى الناس قد استثمر الغضب الشعبي من طبقة سياسية تخلّت عنهم، وانغمست في اهتماماتها ومصالحها الضيقة. على التونسيين أن يقرّوا بأنّ ليلة الانقلاب لم تعرف شارعاً واسعاً يدافع عن الديمقراطية، بل لا نزال نشهد عزوفاً عن الشأن العام، فلم يكن العزوف عن الانتخابات أخيراً مقاطعة سياسية، بل هي أقرب إلى اللامبالاة والخيبة الكبرى من السياسة والسياسيين عموماً. تجرى ترتيبات عددية لمشهد سياسي جديد، غير أنّه ينذر مجدّداً باستعادة ذلك الشرخ العميق الذي شجّ الجسم الاجتماعي التونسي: ديمقراطية بلا حركة النهضة أو حركة النهضة بلا ديمقراطية... ما لم يتم تجاوز هذه الثنائية، وإعادة صياغة ثقافتنا السياسية في شكل آخر من شأنه أن يوطّن الاختلاف السياسي في قناعتنا المواطنية، فإنّ أشكال الانقلاب على الديمقراطية تظل متعدّدة ملتحفة بمئات المسوّغات، حتى تلك الأكثر تنكّراً للعيش المشترك. ثمّة ميثاق أخلاقي فوق الديمقراطية، وأعلاها يحتاج أن يكون ناظماً لعقد اجتماعي جديد للتونسيين.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.