قاضٍ يحرّك البركة الآسنة في لبنان

04 فبراير 2023
+ الخط -

اجتهد المحقّق العدلي في جريمة مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار قانونيًا، فأعاد فتح ملف التحقيق، منهيًا بذلك أكثر من عام على عرقلته، مستأنفًا الأمر بمجموعة قرارات واستدعاءات. وبكلام آخر، عاد البيطار، وعاد بعض جنون قوى السلطة معه. أول غيث هذا الجنون كان الارتفاع غير المسبوق في سعر صرف الدولار في السوق السوداء، حيث قارب 63500 ليرة لبنانية لأول مرة في تاريخه. وثاني الغيث ما شوهد لناحية قطع الطرقات، وحرق الدواليب، في محيط المربّع الأمني، ومحيط المناطق الواقعة تحت نفوذ الثنائي الشيعي في جنوب لبنان وفي ضاحية بيروت الجنوبية، والتي لا تتحرّك النملة فيها من دون موافقة "الأخ الأكبر"، كما رأى كل المتابعين بعد أيام من انطلاق انتفاضة 17 أكتوبر (2019)، فإما الحقيقة التي تريدها السلطة أو الحرب الأهلية.

عاد القاضي بيطار بعد إعاقة محاولاته للوصول إلى "حقيقةٍ ما" في انفجار مرفأ بيروت، متأبطًا موعدًا ونوعًا من العدالة التي افتقرت الساحة اللبنانية إليها منذ سنوات، إلا أن من الضروري أن يعرف المتابعون، وهم يعرفون، أن اللبنانيين يطمحون لنوع محدّد من العدالة، فما يبغيه المتعاطفون مع هذا الرجل ليس كلاسيكيات القضاء ورجال القانون، ولا ماهية القاضي وحقيقته، بل هي حقيقة واحدة متمحورة حول أخذ حقّ اللبنانيين من القوى المهيمنة التي أعاقت العمل على اكتشاف حقيقة كل تفجيرٍ طاول أي شخصية منذ ما قبل الحرب الأهلية، حقّ اللبنانيين من الذين حاولوا المستحيل لاستبدال البيطار "وقبعه" من التحقيق. يريد اللبنانيون أخذ حقهم من القوى التي ساندت بعضها، حين بدأ بيطار باستدعاءاته بحقّ كل من كان يشغل موقعًا مسؤولًا في مرفأ بيروت، وفي محيطه، أي موقع من المسؤولية يستدعي صاحبه مذكّرة جلب واستدعاء وصولًا إلى التوقيف، من الرئيس إلى المدير العام إلى القاضي إلى رئيس الجهاز والموظف .. إلخ.

هذه هي الحقيقة التي يبغيها اللبنانيون، كشعب مهزوم ومنهوب ومحاصر. هي حقيقتهم من هذه الجماعة المستحكمة بالدولة وبناسها، إذ لن تشفي موضوعية الحقيقة غليلهم، بعد أن سقطت الموضوعية والحقيقة منذ مدة طويلة، ولم تعد تقدّم أي إغراء. الحقيقة الواضحة اليوم هي التي نعرفها ويعرفها العالم سلفًا، حقيقة قوى واضحة المعالم ولها اسم، فنحن في لبنان نعرف من الجاني، من القاتل، من الذي ساعد في التفجير، ومن الذي أعاق التحقيق، ومن الذي نهب وسرق وفرّغ الدولة والقضاء والعدالة من كل مضمون. نعرفهم من دون أي تحقيق، من دون أي شكليات، ونحن نطالب القاضي بيطار، وأي قاضٍ غيره، بالاقتصاص منهم على وجه الخصوص. التعاطف مع القاضي ومع نزاهته، ومع عدم قدرة قوى السلطة على إيجاد ما يمكن أن تبتزّه به، هذا كله لا يضاهي الإجماع على اتهام القوى المهيمنة على الدولة. لا يبغي الكلام البحث في قدرة قاضٍ بذاته على الإتيان بأي شيء، بل قدرته على الإتيان بشيءٍ محدّد، وواضح، وبيّن في ذاته من هذه السلطة. يشير بيطار إلى حيث يريد اللبنانيون ويبغون، إلى الذين ما مارسوا يومًا أي شيء إلا وكان بغرض تهديد أمن اللبنانيين، ووجودهم، وحريتهم، ومستقبلهم، في هذه البلاد الجميلة والمنهكة.

سقطت المفاهيم العامة عن الحقيقة، والعدالة، والصواب والخطأ في لبنان، منذ مدة طويلة

سقطت المفاهيم العامة عن الحقيقة، والعدالة، والصواب والخطأ في لبنان، منذ مدة طويلة، منذ أعفت هذه السلطة عن نفسها بعد الحرب الأهلية. يومها بات المعيار الوحيد الإطار النسبي الذي ننظر منه وفيه، وبمعطياته، إلى كل ما يمكن أن يمرّ أمامنا من أحداث وجرائم. من هنا حتى اللحظة، يبدو القاضي طارق بيطار مُراد اللبنانيين، يبدو أنه رفيق طابع العدالة الذي يبغونه. الاقتصاص بكل الطرق الممكنة ممن في السلطة، ليس على ما فعلوه فحسب، بل على مقدار الألم الذي سبّبوه. فإن كان هناك ما هو حقيقي هو حتمًا ما يشعر اللبنانيون به من ضيق وكرب وغضب. وإن كان هناك ما هو عادل، فهو الاقتصاص ممن سبّبت صورهم وأصواتهم وأفعالهم هذا الضيق في الصدر.

لم تعد تغرّ اللبنانيين كل الأطر القانونية والبيروقراطية ومعايير الشفافية في تحقيق (ومصادقة) الأشياء مفاهيمها. لم يعودوا يمتلكون هذا الترف، ولم يعودوا يقتنعون بهذا النوع من المكائد التي تؤجّل تصديق ما هو جلي أمامهم. قد يقول بعضهم إن مضبطة الاتهام لا تفيد في بناء الأوطان، وإن هذا التحامل سبب كل المشكلة. وقد يقول آخرون إن كل ما يقوم القاضي بيطار به هو استهداف للسلطة، وليس لأي جهة اخرى. هذا كله صحيح، ولأنه صحيح فهو مطلوب، ولأن بوصلته واضحة فهو الهدف.

بعد كل ما جرى ويجري، هناك معادلة واحدة ترسّخت في لبنان، تقول إن كل ما يقلق من في الحكم، كل ما يزعجهم ويكبّلهم، كل ما يفقدهم صوابهم ويقتصّ منهم، هو الحقيقي، هو المطلوب، هو المرغوب، وهو العادل.

باسل. ف. صالح
باسل. ف. صالح
كاتب لبناني، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية