في هندسة الحكومة التونسية وخياراتها
لم تكن ولادة حكومة الرئيس التونسي قيس سعيّد، برئاسة نجلاء بودن، المعلن عنها يوم 11 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أقل أوجاعا من نظيرتيها السابقتين، بقيادتي إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي، فقد أخفت هندستها التي استغرقت ما يناهز ثلاثة أشهر صعوباتٍ وتجاذباتٍ ومناكفاتٍ قانونيةٍ وسياسيةٍ عن الشرعية والمشروعية، وتدقيقات في الأسماء والبروفايلات والكفاءات والتخصّصات، تستبطن الخشية من خيبة الأمل التي رافقت نشأة حكومات ما بعد انتخابات 2019، التشريعية والرئاسية، وفشلها.
تشكّلت الحكومة الجديدة على قاعدة الأمر الرئاسي عدد 117، الذي يعطي لرئيس الجمهورية مطلق السلطة في تعيين رئيس الحكومة وأعضائها من الوزراء وكتاب الدولة، ويحدّد لها توجهاتها واختياراتها، وهي مسؤولة عن تصرّفها أمامه، وفق صريح النص. ومن ثمّة هي جديرة بأن تكنّى حكومة الرئيس، من دون أن ينازعها أحد في هذا اللقب، فلا سلطة للأحزاب السياسية عليها، ولا تأثير للشخصيات الوطنية في تركيبتها، ولا دور للحركة النقابية في اختياراتها، ولا أثر لأصحاب المال والأعمال في تحديد ملامحها ولعبة مصالحها، ولا برامج موعودا بها وراء نشأتها.
لازمت تشكيلَ الحكومة التونسية الجديدة سرّيةٌ لا مثيل لها
لازمت تشكيلَ الحكومة التونسية الجديدة سرّيةٌ لا مثيل لها وكتمانٌ مطلق، حال دون انتشار أسماء أعضائها المقترحين على رئيس الجمهورية أو منه في مواقع السوشيال ميديا، العامة والشخصية والصحائف السيارة التي يعجّ بها "فيسبوك" الأمر الذي حرم جمهورا واسعا من عامة التونسيين ومن المشتغلين بالشأنين، العام والسياسي، من مختلف الأطياف والاتجاهات من الحفر في السير الذاتية والتثبت من شروط نظافة اليد والكفاءة العلمية والخبرة العملية والروح الوطنية لمن سيتولى أمرهم ويحدّد مصيرهم ومصير أبنائهم في قادم الأيام، فقد اعتادت وسائل الإعلام التونسية والمنتديات الشعبية المحلية والوطنية، وكذلك "الشعب الفيسبوكي"، بأفراده ومجموعاته، مستفيدين من مناخ الحرية الذي جاءت به الثورة التونسية، على الخوض في أسماء رؤساء الحكومات والوزراء وكتاب الدولة ورؤساء الهيئات الدستورية والسفراء والقناصل وكل الوظائف الحكومية العليا والسامية، وممارسة رقابتهم عليهم، حتى أنهم أسقطوا حكومات ووزراء قبل نيل الثقة، وآخرين بعد مباشرتهم أعمالهم ووظائفهم، وأنهوا عهدة قناصل وسفراء، وتشهد على ذلك سجلّات ودفاتر سياسية كثيرة محفوظة في الذاكرتين، الفردية والجماعية، وفي أرشيفات الصحف الورقية والإلكترونية.
وتختلف هذه الحكومة عن كل الحكومات التي عرفتها تونس في تاريخها المعاصر، في زمن الاستقلال والدولة الوطنية والثورة التونسية، وكانت تنبثق عن الحزب الواحد، الدستوري، في فترتي حكم الرئيسين الأسبقين، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وينتمي جلّ أعضائها إلى ذلك الحزب، أو إلى أحزاب متعدّدة، مثلما هو الشأن في حكومات محمد الغنوشي، والترويكا الأولى والثانية ونظيراتها التي قادها الحبيب الصيد ويوسف الشاهد وإلياس الفخفاخ، أو تلقى تأييد الأحزاب ودعمها والاستجابة لأهوائها، كما هو شأن حكومتي مهدي جمعة وهشام المشيشي التكنوقراطيتين.
رئيسة الحكومة لم تتقدّم ببيان إلى الرأي العام تحدّد فيه المعالم العامة والخطوط العريضة لبرنامج الحكم والسياسات والخيارات المجتمعية التي تعكس فلسفة حكومتها
حكومة الرئيس الجديدة التي ترأسها نجلاء بودن، وهي أول امرأة تونسية وعربية تتولى هذا المنصب، لم تخل من منزع جندري، وقطع مع "الهيمنة الذكورية" على عالم الحكم والسياسة، حسب عبارة عالم الاجتماع الفرنسي، بيار بورديو، في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه. وهي استجابة لمطالب قديمة للمجتمع النسائي التونسي وتنظيماته المدنية وحركاته الاجتماعية والاحتجاجية، وللحركة الإصلاحية ككل، ولأنصار المرأة التونسية وحقها في التعليم الذي يقود إلى أعلى المراتب في مجالات الحياة كافة. ولقد استغرق الأمر ما بين دعوة الطاهر الحداد، أحد مفكّري الإصلاح وأبي فكرة المساواة بين الرجل والمرأة، إلى تحرّر المرأة وتمكينها من حقها في التعلم، وتولّي امرأة حاصلة على أعلى شهادة علمية رئاسة الحكومة التونسية ما يناهز القرن. جاء في كتاب الحداد: "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الصادر سنة 1930: "ولا فوز لأمةٍ يبقى نصفها عاطلا عاجزا، ولا يمكن الخروج من هذه الحال إلا بتعليم المرأة مع تقدير أهمية مركزها العمراني والاجتماعي في الأمة عندما نضع مناهج هذا التعليم" ويضيف الحداد: "التعليم بالمعنى العام الذي يجب أن يكون مبذولا للمرأة كالرجل سواء. وهو حقها الطبيعي الذي لا يحدّده غير المواهب الفطرية واستعداد الإنسان. ومن الجهل والحمق والغبن والظلم الوحشي أن نمنع المرأة من وسائل ظهور مواهبها الفطرية، بدعوى حقنا في تقرير مصيرها حسب إرادتنا. وما إرادتنا إلا الشهوة الغالبة الأنانية الخبيثة".
لكن الجندرة التي ميزت الحكومة، من خلال عشر نساء من ضمن 26 خطة حكومية وبنسبة تتخطّى 40%، لا يمكن أن تحجُب هشاشة التجربة والخبرة السياسية وانعدامهما لدى رئيسة الحكومة وأغلب أعضائها، إذ تنحدر نجلاء بودن، التي دخلت عقدها السابع، من سلالة الأساتذة الجامعيين الباحثين، شأن رئيس الجمهورية، وقد حصلت على شهادة الدكتوراة في الجيولوجيا من المدرسة الوطنية للمناجم بباريس، وباشرت التدريس في المدرسة الوطنية للمهندسين في تونس سنوات طويلة، ثم تولت خطتي مستشارة مكلفة بالعلاقة مع البنك الدولي بديوان وزير التعليم العالي ومديرة عامة للجودة بنفس الوزارة، ولم يعرف لها أي تاريخ نضالي في صفوف الحركات النسوية والمجتمعين المدني والسياسي النقابي والحزبي. وهي بذلك لا تختلف عن مجمل وزراء حكومتها الذين ينتمون إلى ثلاث شرائح رئيسية، من أساتذة الجامعات، مثل وزراء التربية والدفاع الوطني والتعليم العالي والبحث العلمي والمرأة، وموظفي الدولة وكوادرها، مثل وزير السياحة ووزيرة العدل، ورؤساء الحملة الانتخابية الرئاسية للرئيس قيس سعيّد وشرّاح متونه، على غرار وزيري الداخلية والشؤون الاجتماعية.
الجندرة التي ميزت الحكومة، من خلال عشر نساء، لا تحجُب هشاشة التجربة السياسية وانعدامها لدى رئيسة الحكومة وأغلب أعضائها
ونظرا إلى أن الحكومة الجديدة لم تنل الثقة من مجلس نواب الشعب، المعلقة أعماله على خلفية تطبيق الفصل عدد 80 من الدستور التونسي والأمر الرئاسي عدد 117، فإن رئيسة الحكومة لم تتقدّم ببيان إلى الرأي العام، كما جرت العادة، تحدّد فيه المعالم العامة والخطوط العريضة لبرنامج الحكم والسياسات والخيارات المجتمعية التي تعكس فلسفة حكومتها، إن كانت ليبرالية تنحو إلى الخصخصة وبيع المنشآت العمومية، وإعطاء مزيد من الفرص لرأس المال المحلي والأجنبي، وتقليص دور الدولة عبر الكفّ عن الانتدابات بالوظيفة العمومية والحدّ من كتلة الأجور وتحرير الدينار وتعويمه في أسواق المال ورفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات، كما يرغب في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أو إذا كانت هذه الفلسفة اجتماعية - حمائية – راعية، تجعل من الدولة المستثمر الرئيسي والمسؤول عن التنمية وتشغيل مئات آلاف من العاطلين، والحدّ من نزيف الهجرة والهجرة السرية ووضع خطةٍ لتحرير البلاد من الهيمنة المالية الدولية والمديونية الكبيرة التي بلغت 118 مليار دينار، حسب آخر تقرير للبنك الدولي، بما يتجاوز المائة بالمائة من الناتج الوطني الخام، وقطع دابر الاقتصاد الموازي القائم على تهريب السلع والعملات الأجنبية والتهرّب الجبائي، وإصلاح قطاعات المالية العمومية والتعليم والصحة والنقل والتعليم العالي والبحث العلمي والفلاحة والأمن، وجعلها تحت وصاية الدولة دون سواها، باعتبارها قطاعات استراتيجية حيوية تؤمّن حياة المواطن التونسي، كما يرغب هذا المواطن وقواه الحية المدنية والسياسية في ذلك.
لم يجب خطاب التولّي لرئيسة الحكومة يوم 11 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي أمام رئيس الجمهورية على هذه الإشكالات الحارقة والمعقدة التي كانت وراء صعود حكومات وسقوط أخرى، ولم يحدّد السقف الزمني لحكومتها بما يعطي فرصةً لوزرائها لوضع مخطّطات محكمة، تتسم بالمعقولية والقابلية للإنجاز، واكتفت ببياناتٍ لا ترتقي إلى مستوى إعلان نوايا على غرار مكافحة الفساد واستعادة الثقة بالدولة، وفتح مجال الاستثمار وإعادة الأمل للمواطنين، وتحسين ظروف عيشهم، وأن حكومتها تقود مرحلة انتقالية.