المنظومة التربوية في تونس لا تتغيّر بمرسوم
لم يُشِر المرسوم المتعلّق بتنظيم المجلس الأعلى للتربية والتعليم، الصادر عن الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 16 سبتمبر/ أيلول الجاري، في سياق انتخابي لا يخلو من دوس مهام مجلس نواب الشعب، إلى فكرة الإصلاح التربوي، ولم يذكر كلمةَ الإصلاح البتّة. وهو محقٌّ في ذلك، فالإصلاح عادةً ما يكون جزءاً من مشروع وطني مجتمعي شامل، تُوضع له تصوّرات واستراتيجيات وآفاق، ويحظى بإجماع وطني على أرضية الاستقرار السياسي والاعتراف بشرعية من يحكم لفترة لا تقلّ عن خمس سنوات، فترصد له الحكوماتُ الأموالَ الكافيةَ من ميزانية الدولة وقوانين المالية، وتكون فيه الأولوية لترسيخ هُويَّة المجتمع وقيمه الثقافية وفكرة الاعتزاز الوطني لدى الناشئة (التربية)، وتمكين تلك الناشئة من أرقى العلوم والتكنولوجيا، ومن اللغات الأجنبية، بعد التمكّن من اللغة الوطنية وآدابها وفنونها، ومختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية (التعليم).
لا مناص اليوم في تونس من إصلاح تربوي وتعليمي جذري ينهي النمطية السائدة، وعتاقة المناهج المُعتمَدة، وعقمها أحياناً، ويخترق التابوهات التاريخية، ويتخلّص من "مُقدَّسات تربوية وتعليمية" وهمية، استحالت عاهاتٍ ومعوّقاتٍ أمام كلّ محاولة إصلاحية، ويضع حدّاً لما يعيشه التعليم التونسي من تقهقر في الترتيب الدولي بعد أن احتلّت تونس أخيراً المرتبة الـ 84 من بين 140 دولة خضعت لمؤشّر دافوس لجودة التعليم، ومن وصمٍ مردّه إنتاج الأمية، وهي مفارقة كبرى، وجعل المدرسة التونسية طاردةً لأبنائها عبر التسرّب المدرسي، الذي تجاوز في أحيان كثيرة مائة ألف تلميذٍ مغادرٍ لمقاعد الدراسة سنوياً، لعلّ ذلك يعطي المدرسةَ التونسيةَ مكانةً في التقييمات الدولية لمكتسبات التلاميذ بعد توقّف انخراط تونس في تلك التقييمات منذ سنة 2016، وخصوصاً تقييمَي بيزا (PISA؛ تقييم مواد القراءة والرياضيات والعلوم في سنّ 15) وتيمس (TIMSS؛ التقييمات الدولية في دراسة الرياضيات والعلوم في سنّ 10و14 سنة)، ويعيدها إلى مراتبَ محترمةٍ في المستوى الدولي.
وتيمّناً بالتجارب الناجحة أوروبياً وآسيوياً، يمكن للمنظومة التربوية والتعليمية التونسية أن تتخلّى تدريجياً عن طابعها النظري الغالب، وتأخذ أبعاداً عمليةً وميدانيةً وتطبيقيةً وفق مقتضيات سوق الشغل (المحلّية والعالمية) ضمن التمشي الآتي:
أولاً، إحداث منظومة تعليمية تقوم على إعطاء الأولوية للتعليم الصناعي – التكنولوجي، تنطلق مع المرحلة الإعدادية، وتنتهي بحصول التلاميذ على الشهادة الثانوية، الصناعية والتكنولوجية، التي تمكّنهم من الاندماج المُبكّر في سوق الشغل، يتوجّه إليها 70% ممّن ينهون تعليمهم الابتدائي، التكوين النظري فيها يقتصر على 40% من الزمن المدرسي، وما تبقّى من الوقت يُخصَّص للتربّصات وأعمال الخبرة بالتعاقد إلزامياً مع الشركات والمؤسّسات المُتخصّصة الخاصّة، ونظيراتها الراجعة، بالنظر إلى الدولة.
الإصلاح عادةً ما يكون جزءاً من مشروع وطني مجتمعي شامل، تُوضع له تصوّرات واستراتيجيات وآفاق، ويحظى بإجماع وطني على أرضية الاستقرار السياسي
ثانياً، يتوجّه 30% من التلاميذ، بعد الحصول على شهادة البكالوريا، إلى الشُّعَب العلمية (العلوم الصلبة) والطبية والهندسية والمعلوماتية والاقتصادية والمالية والقانونية والآداب والعلوم الإنسانية والفنون، بحسب ترتيبهم على مستوى المُعدَّلات، وما تُوفّره سوق الشغل المحلّية من فرص.
جاء مرسوم إحداث المجلس الأعلى للتربية والتعليم خاليَ الوفاض هزيلَ المبنى والمعنى، لا يعكس رؤيةً وطنيةً للمسألة التربوية وقضايا التعليم الشائكة، ولا كيفية النهوض بها، وهو في حقيقته وثيقةٌ فنّيةٌ مليئةٌ بالحيثيات القانونية، وبالتفاصيل الترتيبية، يُمثّل انعكاساً للتمثّلات السياسية لسلطة 25 يوليو (2021)، وصاحبها الرئيس قيس سعيّد، الذي لا يُعثر له على نصّ واحد يشرح فيه للنُّخَب الوطنية، وللرأي العام الواسع، فهمه للتعليم ومشروعه التربوي، إن كان له مشروع، سوى تذمّره في أكثر من مناسبةٍ من الذكاء الاصطناعي، الذي سيكون له القول الفصل في طبيعة العملية التعليمية، ووعده الانتخابي، مُبشّراً على مدى أكثر من عشر سنوات بإحداث المجلس الأعلى للتربية والتعليم من دون تفصيل القول فيه أو الاستئناس بالنصوص والتجارب المُقارَنة.
يمكن وصف المجلس الجديد بـ"الخليط" من "جلسة العمل الوزارية" الدورية، رغم علاقة بعض الوزراء الثانوية بالمسألة التربوية، التي يحضرها وزراء التربية والتعليم العالي والتشغيل والتكوين المهني والأسرة والطفولة وكبار السنّ والشباب والرياضة والشؤون الدينية والشؤون الثقافية، ومركز للدراسات أو مجموعة تفكير مكوّنة من فريق من الخبراء وهيئة تقييم، لا صبغةَ تقريرية له، ولا سلطةَ حقيقية يتمتّع بها في المجالَين التربوي والعلمي، فهو مُجرَّد جهة استشارية وظيفتها إبداء الرأي وفق صريح الفصل الـ 135 من دستور 2022، يرفع تقاريرَ لرئيس الجمهورية، ولرئيس مجلس النواب ونظيره رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم، وستكون تلك التقارير عبارةً عن مجلّدات فخمة تكلفة طباعتها باهظة تصلح لتزيين رفوف مكاتب أصحاب السلطة، فقط، مضامينها مُرضية للأنا الحاكمة، لكنّها لا تصلح للقراءة وتعميم الفائدة، ولا يمكن ترجمتها عملياً مجموعةً من الخطط والاستراتيجيات التربوية، على غرار تقاريرَ كثيرةٍ تُقدّم سنوياً إلى رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة، وتُوأَد مباشرةً بعد الاحتفالات والتقاط الصور الجماعية.
قوى المجتمع السياسية والمدنية والجامعية كافّة تُقرّ بوصول المنظومة التربوية التونسية السائدة مرحلة ضرورة التغيير الجذري والتجديد العلمي والبيداغوجي (التربوي)
وظيفة المجلس الجديد المتمثّلة بأعمال الخبرة والتقييم هي من صميم اختصاص وزارة التربية، ولدى هذه الوزارة ترسانةٌ من النصوص وأعمال الخبرة والتقييم (بحوث ودراسات وتقارير) المُنجَزة من مصالحها وإدارتها العامّة، وقد أنجزها جامعيون متخصّصون أو متفقدون في مختلف الاختصاصات التربوية وغيرهم من مكوّنات الجسم التربوي، هذا إضافة إلى ما تزخر به كلّيات ومعاهد الجامعة التونسية، خصوصاً المعهد الأعلى لعلوم التربية، من أرصدة علمية، وأعمال بحثية جماعية وفردية، وأطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير حول واقع التربية والتعليم في تونس وسبل إصلاحه، وغير ذلك من الدراسات والأعمال المُقارَنة. ولن يكون لهذا المجلس من دور سوى خلق نوع من ازدواجية السلطة وإدخال الاضطراب إلى عمل وزارة التربية، الوزارة العريقة، التي يعود فضلها إلى التونسيات والتونسيين كافّة، ما يستوجب الدفاع عنها وحمايتها من الارتجالية والقرارات العشوائية.
وبناءً على ما ذُكِر، وقياساً إلى ما انتهى إليه عالم الاجتماع الفرنسي ميشال كروزيه، من أنّه "لا يمكن تغيير المجتمع بمراسيم"، فإنّ واقع التربية والتعليم في تونس لا يتغيّر بمرسوم، لكن في المقابل، وكما هو مثبت في التجارب التاريخية، يمكن تغيير المنظومة التربوية بواسطة فكرة "إصلاحية" شاملة، يكون فيها التربوي الوجه الآخر للمشروع السياسي، كما وقع سنة 1958 (كاتب الدولة للتربية محمود المسعدي)، وقد يقع تغيير النظام التربوي بقانون توجيهي شامل (وزير التربية محمد الشرفي 1991)، أو بإجراء تنقيحات جوهرية وأخرى ثانوية على ذلك القانون، على غرار ما بات يعرف بمدرسة الغد (وزير التربية منصر الرويسي 2002).
كان على الرئيس سعيّد أن يتقدّم إلى مجلس نواب الشعب بقانون توجيهي جديد يُترجِم مشروعه الإصلاحي، يُناقَش علناً بعد الاستماع إلى الأطراف المعنية بالعملية التربوية والتعليمية، ويتمّ تناوله بالتوازي في وسائل الإعلام والاتصال، وفي المنتديات السياسية والفكرية والأكاديمية، فيكون التونسيون على بيّنةٍ من محتوياته وآفاقه، وما يحمل من إمكانات النجاح أو الفشل، خصوصاً أنّ قوى المجتمع السياسية والمدنية والجامعية كافّة تُقرّ بوصول المنظومة التربوية التونسية السائدة مرحلة ضرورة التغيير الجذري والتجديد العلمي والبيداغوجي (التربوي)، وفي مستوى التكوين والتقييم والامتحانات والمناظرات، وملاءمة تلك المنظومة للحاجات الوطنية والتطوّرات العالمية، بعد مراجعة أهدافها الكبرى وغائياتها المنشودة.
لا يتغيّر واقع التربية والتعليم بتونس بمرسوم، بل بفكرة "إصلاحية" شاملة، يكون فيها التربوي الوجه الآخر للمشروع السياسي
لكنّ الرجل اختار تجاهل هذا المجلس، وسارع إلى إصدار مرسوم لا مبرر لتسريع إصداره، فيه محاولة التدارك والتكفير عن ذنب عدم الإيفاء بوعد انتخابي ألزم به نفسه قبل خمس سنوات، يستبطن لهفةً انتخابيةً لاستقطاب جمهور أهل التربية والتعليم، أغلبه صار على قناعة بأنّ المسألة التربوية ليست من أولويات سعيّد وفريق حكمه، بل يقع التعامل معها من باب سدّ الذرائع، وأحياناً بالتهديد والوعيد، عندما تتوتّر المناخات التربوية وتسودها الحالات الاحتجاجية والنزعات الإضرابية.
وإذا لم يتحوّل هذا المرسوم إلى نصّ مهجور، مثل نصوص أخرى عديدة طوباوية، من ورائها نزوات فردية وتصوّرات هلامية بعيدة البعد كلّه عن متطلّبات الحياة العامّة، فإنّه سيؤسّس لهيكل مفرغ سيكون مثالاً آخرَ لهدر المال العام والوظائف الوهمية، مالٌ أولى أن يُنفَق على المؤسّسات التعليمية التونسية الأساسية والثانوية التي تعاني من العوز اللوجستي، الذي يبلغ أحياناً درجةَ العجز عن توفير أبسط لوازم العمل وأدواته، ووظائف يمكن صرف مُخصّصاتها المالية في دمج فئات التدريس الهشّة (الأساتذة والمعلمون النواب) ومزيد من انتداب المدرّسين ومختلف مكوّنات الإطار التربوي، خصوصاً أنّ المؤسّسة التونسية في حاجة إلى آلاف المدرّسين سنوياً لا يُنتدب منهم إلا العددُ القليل.